شريف عبدالغني


في السادسة صباح كل يوم، كان عم laquo;عبده صقرraquo;، يفتح دكانه لحياكة الملابس المواجه للشارع الموجود به منزلنا. طقوسه لم تكن تتغير.. يكنس أمام الدكان وبعدها يرشّ المياه ليجفف التراب قبل أن يفرش حصيرته، ثم يبدأ في تجهيز عشقه الأبدي.. laquo;الشيشةraquo; الضخمة التي لم يكن مبسمها يفارق فمه. يجلس ليتناول إفطاره وبالتدريج تتجمع صحبته الذين هم خليط من العاطلين وأصحاب الأملاك الكسالى.
صار عم عبده ورفاقه من رموز laquo;حتتناraquo; في قريتي أجهور الكبرى بالقليوبية، إحدى قرى الدلتا المصرية. يجلسون من الصباح حتى بعد الظهيرة أمام الدكان يتبادلون فيما بينهم مبسم laquo;الشيشةraquo; بينما أنفاس الدخان تغطي المكان. ومع حركة الشمس ولهيبها كانوا ينقلون جلستهم قرب العصر إلى المكان المقابل للدكان من الجهة الأخرى للشارع. حفظت حركتهم من كثرة مروري عليهم، وكان منتهى أملي في طفولتي أن أجلس معهم، حتى دارت الأيام دورتها وأصبحت واحدا منهم بعدما علمني عم عبده تدخين laquo;الشيشةraquo; وأنا في الإعدادية!
هذا الرجل هو أحد أحب الناس إلى قلبي، يتميز بخليط من صفات المصريين الحقيقيين، خفة ظل مع طيبة وعفوية في الكلام، وعدم حساب رزق الغد وترك الأمور على الله. غير أني اكتشفت لاحقا أن عم عبده كان بعيد النظر ويملك رؤية سياسية ثاقبة استلهمها منه حكام مصر والعرب منذ السبعينيات من القرن المنصرم!
ما ذكرته عن أسلوب حياته يوضح أنه لم يكن يعمل كثيرا، كانت الأحاديث والمسامرات وأنفاس حجارة الدخان، تأخذه من ماكينة laquo;الخياطةraquo; أو من الإبرة الصغيرة التي يخيط بها وحدها الجلابيب البلدية القيّمة (الزي الشعبي في مصر)، حيث كان بارعا في تفصيل هذا النوع بالذات، ولذلك كان يهمل جلابيب الأطفال والصبية. كنا نذهب بقماش الجلباب الجديد للعيد، قبل المناسبة بأربعة أشهر حتى لا يتحجج بالوقت. ويوم وراء يوم وأسبوع يجر الآخر وشهر يتلو الشهر، وهو لا يسلمنا الجلباب، وفى كل مرة كان يضحك علينا بأنه انتهى منه، وسيجهزه بعد أن نشتري له من دكان البقالة ورقة معسل الدخان، أو أن نغسل له الشيشة، أو نملأ له دلو المياه من حنفية (صنبور) المسجد الكبير المجاور له. وبعد أن ننفذ له مطالبه يفاجئنا بأن الجلباب ينقصه بعض الحاجات البسيطة وlaquo;تعالوا خدوه بعد يومينraquo;، حتى نصل إلى ليلة العيد، ونتحايل عليه: laquo;والنبي يا عم عبده عاوزين الجلابيات عشان نعيّد بيها.. العيد بكرهraquo;، وكالعادة يبتزك ببعض المطالب، قبل أن يؤكد لك أن تمر عليه صباح يوم العيد لاستلام الجلباب. نفس الرد قاله لبعض أقاربي. ولما ذهبنا إليه ونحن نمنّي أنفسنا بارتداء الجلباب الجديد والانطلاق به إلى مراجيح العيد، كانت المفاجأة الجديدة أنه انتهى منه تقريبا، لكن ينقصه بعض الأشياء، وأنت وحظك، فجلباب ناقص laquo;الياقةraquo; وآخر لا يوجد به جيوب، وثالث بلا أزرار، ورابع بدون laquo;أساورraquo;. وأقنعني وأقاربي بارتداء الجلابيب وهي على هذه الحالة البائسة، قائلاً: laquo;بس خدوها دلوقتي عيّدوا بيها وهاتوها لي بعد صلاة العصر أكّمل اللي ناقصهاraquo;!
ما كان يفعله عم عبد صقر معنا، وهنا سر عبقريته، هو ما تنفذه بالحرف كثير من الأنظمة العربية، التي تؤكد لشعوبها أنها تفصـّل لهم laquo;جلبابا إصلاحياraquo;، سيجعل الصنف العربي من الديمقراطية يتفوق بعون الله على نظيره الأميركاني. ويحلم الخيال العربي بيوم عيد الديمقراطية الموعود، وينتظر المواطنون laquo;الجلابيب الإصلاحيةraquo; من السلطة التي تقيهم برد laquo;الديكتاتوريةraquo; ولهيب laquo;التسلطraquo;، ويوم يجر يوما، وأسبوع يشد أخاه، وشهر يتلو زميله، وسنة تلحق بأختها، والسلطة تتأخر في تسليم laquo;الجلبابraquo;. وفجأة تهلل بانتهائها منه وتزف البشرى بأن السماء ستمطر إصلاحا، ويذهب الشعب لتغيير الجلباب القديم بالحديث، وبعد أن يرتديه تظهر الحقيقة مدعاة لسخرية الزملاء شعوب العالم، إنها مثل جلابيب عم عبده، تنقصها ياقة laquo;شفافيةraquo; على زر laquo;حقوق الإنسانraquo;، كما لا توجد بها جيوب laquo;حرية تعبيرraquo; أو تطريز laquo;انتخابات حقيقيةraquo;، وتقنعنا السلطة أن نرتدي الجلابيب لنعيّد بها، على أن نعيدها إليها بعد صلاة المغرب لتكمل ما ينقصها، قائلة: laquo;الإصلاح يجب أن يتم بالتدريج حتى لا تحدث فوضى، الصبر جميل وخطوة خطوة كل شيء هيكون كويس، وإحنا كنا فين وبقينا فينraquo;.
في كثير من الدول العربية، عشمّوا الشعوب بعباءة فضفاضة من التغيير الإصلاحي، ليتضح في النهاية أن العباءة تقلصت إلى مجرد laquo;كوفيةraquo; توضع على الكتف للزينة!
فعلها السادات في السبعينيات، خرج في زفة ليحرق شرائط تسجيلات مكالمات المواطنين، ويهدم الحجر الأول من معتقل سجن القلعة، ويبشر ببدء عهد الحرية وتكوين الأحزاب، وذهب الشعب ليرتدي الثوب الديمقراطي الجديد، فإذا بالرئيس يجمع كل رموز مصر والشخصيات الحزبية المعارضة في اعتقالات سبتمبر 1981، وليظهر ثوب السادات الديمقراطي بـlaquo;أنيابraquo;حسب تعبيره!
ومع مبارك خرج رجال وصحافيو السلطة يرقصون، مبشرين الشعب بأنه سيرتدي لأول مرة جلباب laquo;انتخابات رئاسية متعددةraquo; بعد قرار الرئيس بتعديل المادة 76 من الدستور المصري، وفرح الشعب ونام سارح الخيال ليرى في بلده ما يحدث في الدول المتقدمة، ويتنافس المتنافسون الرئاسيون ببرامج وأفكار ومناظرات وندوات، وحين جاء تسليم جلباب تعديل laquo;المادة 76raquo; فوجئ الشعب أنه ليس على مقاسه، وأن الجلباب تم تفصيله خصيصا لشخصين لا ثالث لهما laquo;الرئيس ونجلهraquo;، وأنه ينقصه laquo;جيبraquo; لا يأتي إلا بتوقيع 250 عضواً بالمجالس المحلية والنيابية، هم العدد المخصص لتزكية أي مرشح مستقل للرئاسة، ويستحيل طبعا حصول مثل هذا المرشح على كل هذا العدد من التوقيعات في ظل سيطرة الحزب الوطني الحاكم على هذه المجالس!
كل الشواهد تؤكد أن الجماعة laquo;العواطليةraquo; والكسالى الذين كانوا يجالسون عم laquo;عبده صقرraquo;، استفادوا من خبرته في تفصيل الملابس الناقصة جيوب وأزرار وياقات، وأن الله قد فتحها عليهم ووجدوا وظائف بعد وفاة عم عبده رحمه الله. أما الوظائف الجديدة فهي laquo;ترزية قوانينraquo; عند الأنظمة العربية!