محمد حسن علوان

الحقيقة أن الفتاوى المتشددة والمتساهلة والغريبة، إذا صحّ إطلاق هذه الأوصاف عليها، ليست حديثة في تراثنا ولا مجتمعنا، ولكن ما استجدّ اليوم هو سهولة انتقال الفتوى بين الوسائط الإعلامية، ومن ثم استحواذها على ألباب الجمهور، مما أغرى الكثيرين باستغلال مفعولها السريع في توجيه الأجندات الاجتماعية

من المتوقع أن نجد لدى كل مهتم بشأن الفتوى مؤخراً نظرية ما حول أسباب تهافتها الذي نعيشه اليوم. وتحليل هذه الأسباب قد يأخذ مسارات عديدة حسب أهواء المحللين وتوجهاتهم. سيلوم بعضهم بعضاً، وسيلومون غيرهم. الإعلام متهم رئيس دائماً، وكذلك التراث، والعولمة، والحكومة، والابتعاث، والفضائيات، والتعليم، والدول المجاورة، بل حتى الظروف الاقتصادية للمواطن تؤثر في مدى انفعاله بما يدور على ساحة الإفتاء. باختصار: كل إصبع اتهام حول قضية تهافت الفتوى ستجد لها شخصية طبيعية أو معنوية تشير إليها. لا يوجد لدينا نقص في عدد المتهمين في القضية، ولكن الغريب أنه لا يوجد لدينا نقص في أصابع الاتهام أيضاً، فالجميع، بعد صدور الأمر الملكيّ بتقييد الفتوى خاصة، تحول من أحد أطراف الصراع إلى أحد مفسّري القرار. فرُّوا من الميدان فور صدور الأمر الملكيّ كي لا يبدو للناس أنهم المعنيون به، واتخذوا أماكنهم إلى جانب صنّاع القرار لكي يوحوا أنهم كانوا معهم منذ البداية. واستبقوا التعليق على القرار قبل الأطراف الأخرى ليتسنّى لهم توجيه الرأي العام نحو إدانة الطرف الآخر الذي تسبب في كل هذه الفوضى التي استدعت حسمها بأمر ملكيّ. طرفٌ يقول إن فتاوى التشدد والتكفير هي المعنية، وطرفٌ يقول إنها فتاوى التساهل والإباحة، وطرفٌ يقول إنها تلك الفتاوى الطريفة التي تتحول لنكتة اجتماعية فور صدورها. وكل الأطراف يدعم رأيه بشواهد زمنيّة متداخلة بما أن الأمر الملكيّ صدر فعلاً في نفس العام الذي انطلقت فيه فتاوى التنكيت والتبكيت في اتجاهين متعاكسين بين التشدد حد الجنون، والتساهل حد السخف، ولم يعيّن الأمر الملكيّ أحداً منهما، بل شملهما معاً تحت مظلة شواذ الآراء ومهجور الأقوال.
والحقيقة، أن الفتاوى المتشددة والمتساهلة والغريبة، إذا صحّ إطلاق هذه الأوصاف عليها، ليست حديثة في تراثنا ولا مجتمعنا، ولكن ما استجدّ اليوم هو سهولة انتقال الفتوى بين الوسائط الإعلامية، ومن ثم استحواذها على ألباب الجمهور، مما أغرى الكثيرين باستغلال مفعولها السريع في توجيه الأجندات الاجتماعية. وهذا يدلل مرة أخرى على أن الفتوى لا علاقة لها بحرية الرأي في هذا السياق ما دامت تُستغلّ كأداة توجيه وهيمنة. ولو أن أطروحات فولتير نفسه استُغلّت لتحزيب الناس وتأجيج الصراعات لأصبح من الواجب تقييد أقواله، ومنع تداولها، وحصر تفسيرها على من يجيد استخدامها لمصلحة المجتمع المطلقة مع الاختلاف المتوقع حتماً بين أطياف كثيرة من الناس حول ماهية هذه المصلحة وأهليّة من يقرّها.
ولكن رغم ذلك، يرى البعض أن المجتمع خليقٌ بأن يختار لنفسه، فيأخذ ما ينفعه ويترك الزبد ليذهب جفاءً دون حاجة لوصاية سياسية على اختيارات الناس. وهذه وجهة نظر رفيعة لو أنها تتحدث عن (الأفكار) التي هي محض قدح عقليّ بشري في مجتمع ما، ولكن ليس على (الفتاوى) التي هي مستحضر دينيّ مركّب وشديد التأثير. الأفكار طعام يُشتهى ويُكره حسب الرغبة، والفتاوى عقاقير تشفي وتقتل. ولا يوجد مجتمع، مهما بلغ رشده، لا يضع قيوداً على تصنيع العقاقير وتداولها.
إن جوهر أي خلاف قد ينشأ حول جدوى تقييد الفتوى ومشروعية هذا التقييد يكمن إذن في أمرين: أولهما، إعادة تعريف الفتوى من حيث هي فكرة مطلقة أم أداة ثقافية. وثانيهما، ما يحدث بعد التقييد من معايير اختيار النخب المخوّلة بالفتوى، وآلية نقدهم وحيثيات الاختلاف معهم. فالأفكار لا يمكن تقييدها لأنها حقٌّ فطريّ للفرد، ويتم قياس صحة المجتمع ومرضه من حيث قدرته على منح هذا الفرد ذلك الحق. ولكن المفتين الذين أمطروا الساحة بفتاواهم في الآونة الأخيرة لم يطلقوا هذه الفتاوى لأنهم يمارسون حقهم الفطريّ في التفكير، بل تسنّموا المكانة الرمزية التي منحهم إياها المجتمع، واستغلوا المنبر الخاص الذي تمت هندسته لأسباب مختلفة، ثم أطلقوا حزمة من الرؤى ذات تأثيرٍ مباشر على الجمهور. إنهم لا يفكرون بحرية، بل يسيطرون ببطء. إنهم لا يمارسون حقوقهم كأفراد مفكرين، بل يحرمون الأفراد الآخرين من هذه الحقوق بتطويقهم بفتاوى تعطّل التفكير وتكرّس بالتبعيّة. هذا يعني أنهم، أو بعضهم، أساء استخدام هذه الأداة المؤثرة (الفتوى) فوجب نزعها عنه، ثم وجب بعد ذلك حصرها على من لا يسيء استخدامها، وتلك قضية أخرى لها مقامها ومقالها تكمن في تحديد هؤلاء العلماء المخولين رسمياً بالفتوى وكيفية التعامل معهم أخذاً وتركاً ونقداً ومحاسبة. وفي هذه القضية مجال هائل للنقاش والجدل والاختلاف بطبيعة الحال.
إن السماح بإطلاق الفتاوى على أعنّتها يشبه السماح بنشوء سوق كبير للبضاعة المقلّدة تهدّد بتدمير مقومات الإنتاج وتقويض الاقتصاد ككل من أجل خدمة مصالح فئاتٍ قليلة. ذلك التقييد الاقتصادي بحماية حقوق الملكية يشبه التقييد الثقافي بحماية مرجعية الفتوى. والحقيقة أن الآثار السيئة التي يتركها التقليد على الاقتصاد قد ترك مثلها تهافت الفتوى على المجتمع. وهو ما حدث عندما راجت الفتاوى التي تتم صناعتها خلال دقائق في برنامج تلفزيوني أو موقع إلكتروني، وتنتشر بسرعة هائلة لتحقق هدفاً تيارياً أو شخصياً سريعاً. ولا يمكن صرف النظر عن كون الفتاوى حول مستجدات الأمور مثيرة لاهتمام الجمهور، ولاسيما إذا تمّ إطلاقها عبر الأثير أو بالبنط العريض، ولا عزاء لتلك الفتاوى المسبوكة على مهلٍ في لجان شرعية بطيئة ثم لا تعدو كونها تكراراً للمعلوم من شؤون الدين.