الحسين الزاوي
يمثل الرئيس الأمريكي باراك أوباما حالة استثنائية وغريبة بالنسبة لمجمل التاريخ السياسي الأمريكي، فلم تعرف أمريكا رئيساً تباينت أقواله مع أفعاله، وانتقلت الأحكام والمواقف بشأن قراراته ومواقفه السياسية من النقيض إلى النقيض، مثلما حدث ولا يزال يحدث مع هذا الرئيس الأسمر القادم من أعماق التضاريس الإفريقية، فأوباما يعتبر أول رئيس أمريكي تنخفض شعبيته بعد مدة قصيرة من توليه سدة الحكم في البيت الأبيض، كما أنه قد يكون الرئيس الأول الذي يُمارس محيطه الإداري ومستشاريه سلطة تعطي للمراقب انطباعاً صارخاً أنه رئيس غير قادر على الاضطلاع بمهامه الدستورية بشكل كامل .
فبعد أن استبشر العالم بمجيء رئيس يحمل منطوق خطابه نبرات قوية توحي بإمكانية إحداث تغييرات جدية على مسار السياسة الأمريكية التي أرهقت العالم بالحروب والصراعات السياسية المفتوحة في عهد الرئيس جورج بوش الابن، بدأت ملامح خيبات الأمل تتجلى منذ الشهور الأولى لتسلم أوباما لمقاليد الحكم . ولم تكد تمضي السنة الأولى من حكمه، حتى استخلص عدد كبير من المتتبعين أن مشاعر الأمل والتفاؤل التي فجّرها انتخاب أوباما باتت قاب قوسين أو أدنى من أن تتحول إلى كابوس مزعج شبيه بمسلسل درامي سيء الإخراج . فقد فشل أوباما بطريقة صارخة في أن يُحقق ولو جزءاً بسيطاً من وعوده الانتخابية، سواء على المستوى المحلي أو الدولي، فباستثناء قانون الرعاية الصحية الذي لا يزال حبراً على ورق، فإن كل خطط ومشاريع الإنعاش الاقتصادي التي تبناها فريقه باءت بالفشل، كما أن سياسته الخارجية عرفت مصيرا أكثر سوءاً، حيث فُجع المراقبون بمستوى أداء أوباما السياسي على المستوى الدولي، وعاب عليه كثير من قادة الدول الغربية عدم قدرته على اتخاذ مواقف حاسمة في ما يتعلق بإدارة الصراعات الدولية، وحتى على مستوى تسيير اللقاءات التي جمعته بنظرائه الغربيين، حيث استخلص بعض الرؤساء أنه لم يكن قادرا على تقديم مواقف واضحة وحاسمة بالنسبة لأغلب الملفات المطروحة على طاولة النقاش .
ويمكن القول إن أوباما لم يفعل أكثر من السير على خطى سلفه الجمهوري جورج بوش على مستوى كل ملفات السياسة الدولية، فبالنسبة للعراق كان واضحاً منذ البداية أن إدارته لم تأت بجديد يستحق الذكر، خاصة بعد قرار أوباما القاضي بإبقاء وزير دفاع سلفه في منصبه، الأمر الذي حدا بروبرت غيتس إلى استئناف مسار السياسة الأمريكية السابقة في العراق، لذلك زادت وعود واشنطن بالانسحاب بينما الوضع العراقي ازداد تردياً، حتى بات أغلب العراقيين يؤكدون أن بقاء القوات الأمريكية يمثل ضرورة ملحة بالنسبة لاستقرار العراق على المدى القريب والمتوسط .أما على مستوى الحرب الأمريكية على ما يوصف بالإرهاب في أفغانستان فإن سياسة أوباما كانت أكثر دموية من سياسة بوش، حيث تضاعفت خسائر الجيش الأمريكي وازداد عدد الضحايا في صفوف المدنيين الأفغان، وزادت شعبية حركة طالبان أكثر من أي وقت مضى، ولم يعد الرأي العام الأمريكي مقتنعاً في المرحلة الراهنة، بإمكانية انتصار قواته في حربها على القاعدة وطالبان في أفغانستان .
لكن الإخفاق المدوي لأوباما في ما يخص السياسة الخارجية، يصحُّ القول إنه حدث بشكل أساسي على مستوى ملف الصراع في الشرق الأوسط، حيث تدحرجت مواقفه مثل كرة الثلج لتصطدم بعنف شديد بجدار الرفض ldquo;الإسرائيليrdquo; المدعوم من قبل اللوبي الصهيوني المتغلغل حتى داخل إدارته . فقد لاحظ الجميع بكثير من الدهشة والذهول أن أوباما لا يستطيع أن يتحكم في دواليب السياسة الخارجية لحكومته، خاصة ما تعلق منها بالعلاقة مع ldquo;إسرائيلrdquo;، فقد كانت مواقف وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون، أقرب إلى حقيقة الموقف السياسي الأمريكي الرسمي من تصريحات ومواقف أوباما الفضفاضة . إذ أسفرت لعبة الشطرنج الدبلوماسي الذي مارسته إدارة أوباما، عن نتائج جعلت حلفاء أمريكا في العالم العربي يشعرون بحالة غير مسبوقة من الضيق والقنوط، بعد أن انتهت المناورات الأمريكية إلى مستوى تبني كل شروط ldquo;إسرائيلrdquo; بالنسبة لموضوع التفاوض بين تل أبيب والسلطة الفلسطينية، حيث تبنى البيان الأمريكي بشأن المفاوضات موقف نتنياهو بشكل حرفي بفواصله ونقاطه، ودعا الطرفين إلى استئناف المفاوضات من دون شروط مسبقة، ورفض الأمريكيون بكل صفاقة أن يوفّروا حدا أدنى من شروط المفاوضات المشرِّفة للفلسطينيين المؤمنين بإمكانية إيجاد حل تفاوضي وسلمي لقضيتهم الوطنية .
وهكذا لم يعد خطاب أوباما قادراً، في رأي الكثيرين، على تأدية الوظيفة التواصلية المرجوة منه، لأن الجميع باتوا يستخلصون من تصريحاته مضامين تختلف اختلافاً كبيراً عن منطوق خطابه، وكأن أوباما يواجه حالة غريبة من تجليات الخطاب السياسي المعاصر يمكن تسميتها بمكر الخطاب . فكلّما صرح بأنه مسيحي مقتنع بمسيحيته، كلما ازداد عدد الأمريكيين الذين يؤمنون أنه مسلم يخفي إسلامه، كما أن قدراته اللغوية والبلاغية باتت تعطي نتائج عكسية، ولم يعد الأمريكيون ولا حتى الأجانب يثقون في أقواله، بل إن هناك انطباعاً قوياً بدأ يتشكل لدى بعض المتتبعين لأقواله وتصريحاته، يوحي أن خطاب أوباما يحمل في مكوناته الدلالية عناصر وعلامات تؤدي وظائف لا تنسجم بالضرورة مع قناعاته السياسية . وكأن بنية خطابه تجعله يتبنى أجندة تختلف بشكل واضح عن أجندة صاحب الخطاب، الأمر الذي يؤدي إلى الاستنتاج أن خطاب أوباما خطاب ماكر ومُغْفَل لا هوية له .
التعليقات