من تاريخ الافتئات
حمزة قبلان المزيني
يشهد تاريخ المملكة الحديث بأن تأسيس بعض الهيئات الدينية الرسمية في المملكة إنّما كان علاجا لبعض حالات الافتئات على المؤسّسات الدينيّة. ومن هنا فقصر الفتوى والاحتساب على الهيئات الرسمية الذي تضمنه التوجيه الملكي ليس إلا امتدادا لما فعله الملك عبد العزيز ..
ليس التوجيه الملكي الذي أصدره خادم الحرمين الشريفين، الملك عبد الله بن عبد العزيز، لرد الافتئات عن المؤسسات الدينية الرسمية، بدعا في تاريخ المملكة. فهناك سوابق تؤكّد أنّ هذه الظاهرة كثيرا ما تعاود الظهور بين فترة وأخرى، خاصة في بعض الفترات الحاسمة من هذا التاريخ. ويواجه ولاة الأمر هذه الظاهرة دائما بإجراءات حازمة لكبحها من أجل درء الأخطار التي تنشأ عن انفلات زمامها الذي تترتب عليه عواقب خطيرة ليس أقلها التكفير لبعض مكونات المجتمع، وإشاعة الفرقة، وإثارة القلاقل الأمنية مما يؤثر سلبا على السلام الاجتماعي ووحدة الكلمة، وعلى علاقة الدولة بالخارج.
ويشهد تاريخ المملكة الحديث بأن تأسيس بعض الهيئات الدينية الرسمية في المملكة إنما كان علاجا لبعض حالات الافتئات تلك. ومن هنا فقصر الفتوى والاحتساب على الهيئات الرسمية الذي تضمنه التوجيه الملكي ليس إلا امتدادا لما فعله الملك عبد العزيز - رحمه الله - في مواجهة هذه الظاهرة. فقد تصدى الملك المؤسس لها في بعض الفترات الحرجة من تاريخ المملكة بقصر الفتوى على أفراد معينين أو هيئات خاصة وتنظيم الاحتساب والوعظ درءا للفوضى التي تنجم عن حماس بعض المحتسبين وأخذهم الأمر بأيديهم.
ومن تلك السوابق المهمة ما تصوِّره رسالةٌ بهذا الشأن وجهها عدد من المشايخ البارزين في سنة 1339هـ إلى quot;علماء نجدquot; وغيرهم قبل اكتمال توحيد المملكة. ويبدو أنها كانت موجهة إلى الملك عبد العزيز في المقام الأول لحثه على اتخاذ إجراء ضد بعض المفتئتين. وتتضمن الرسالة شكوى أولئك المشايخ من خروج بعض المتحمسين على المفتى به في تلك الفترة التي كانت تشهد جهودا حثيثة لتوحيد المملكة. وتوحي الرسالة بأن بعض تلك الفتاوى كانت تمثل خطرا على الجهود الرامية لتوحيد الصف لإنجاز الوحدة المرتقبة، وتثير بعض القوى المحلية لكي تعترض ذلك المشروع الواعد.
ولم تتضمن الرسالة توضيحا كافيا للظروف التي دعت إلى كتابتها، ولم تشر إلى أشخاص معينين بالاسم، لكنها - بلغتها الحاسمة - توحي بأن ذلك الافتئات على الفتوى كان قويا وشائعا وخطيرا كذلك.
وجاء في الرسالة: quot;وقد عرفتم ما حدث من كثير من الناس، من أهل الجهل، وما انتحلوه في الدين، وخرجوا بسببه عن سبيل الطريقة المثلى، من أهل العلم واليقين، وعدموا البصيرة في دين الله، بعدم اقتباس العلم والهدى من مظانه.
''ولا ينبغي لأحد من الناس العدول عن طريقة آل الشيخ، رحمة الله عليهم، ومخالفة ما استمروا عليه في أصول الدين؛ فإنه الصراط المستقيم، الذي مَن حاد عنه فقد سلك طريق أصحاب الجحيم. وكذلك في مسائل الأحكام والفتوى، لا ينبغي العدول عما استقاموا عليه، واستمرّت عليه الفتوى منهم. فمن خالف في شيء من ذلك، واتخذ سبيلا يخالف ما كان معلومًا عندهم، ومفتىً به عندهم، ومستقرة به الفتوى بينهم، فهو أهل للإنكار عليه والرد لقوله'' (الدرر السنية، ج14، ص ص 373ــ 376).
وكان تجاوب الملك عبد العزيز مع تلك الرسالة سريعا وحاسما. فقد أشار في رسالة وجهها إلى العموم إلى مضمون تلك الرسالة (الدرر السنية، ج14، ص ص 376 ــ 380)، وأكد فيها رفضه للافتئات على الفتوى الذي شكا منه المشايخ وبيَّن أن وحدة الكلمة تتطلب وحدة مصدر الفتوى وتوعَّد من لم يلتزم بما جاء فيها بالعقاب. وأكد الملك المؤسس ذلك الحزمَ في مواجهة هذه الظاهرة في رسالة أخرى (الدرر السنية، ج14، ص ص 380 - 388) كانت أكثر صراحة في توصيفها حال المفتئتين على الفتوى وأن بعضهم يصدر عن جهل وبعضهم عن هوى وبعضهم الآخر عن تقليد لأولئك جميعا.
كما تضمنت بعض الرسائل الأخرى التي وجهها الملك عبد العزيز إلى بعض الأفراد والجماعات في فترة التأسيس التحذيرَ من بعض الوعاظ والمفتين الذين كانت فتاواهم ومواعظهم تخرج عن الخط العام وتتسم بالتشدد. ويضم كتاب quot;لسراة الليل هتف الصباح: الملك عبد العزيز دراسة وثائقيةquot;، تأليف الشيخ عبد العزيز التويجري، ط4، 1429ه، مثلا، كثيرا من تلك الرسائل. ومنها رسالة وجهها الملك إلى بعض زعماء القبائل يقول فيها إننا quot;نهيناكم عن بعض هؤلاء المدَّعين الذين يأتونكم ويشبِّهون عليكم فلربما أن بعضهم يخرجكم من دينكم وتكونون في مفسدة أعظم مما كنتم عليه سابقا من الغلو والتشدد، وإنزال آيات القرآن وربطها على غير ما أنزل الله، فهذا أمر عظيمquot;، ثم قال: quot;وبالحقيقة إن بعض هؤلاء المتطوعين مشابهون (للخوارج). . . وأما الإنسان الذي يرى أن ما على الدين إلا هو أو ما انتهى إليه فقهه وليس مقلدا إلا كل صاحب شبهة وغلو فنبرأ إلى الله منه. . . والذي ننهاكم عنه ثلاثة أمور الأول: لا تسألوا ولا تمتثلوا بأمر أحد من طلبة العلم إلا بعد أن تراجعونا. . . ونُظهِر معكم الذي نعلم منه النصح للإسلام والمسلمين أو فتوى أحد يرضاه علماؤنا. . . فهؤلاء ما أفتوكم به فهو إن شاء الله حق. . . وأما الإنسان الذي يخالف هذا الأمر أو يتعدى ما ذكرنا (فسنعاقبه). . . ومن أنذر فقد أعذرquot; (ص ص 477 - 480).
أما الإجراءات التي جاءت للحد من فوضى الاحتساب فمن أشهر أمثلتها إنشاء هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في مكة المكرمة بعد ضمّ الحجاز إلى الكيان الجديد. فقد أورد مايكل كوك في كتابه: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الفكر الإسلامي. ترجمة رضوان السيد وآخرين، 2009م، كثيرا من الحوادث التي تسبب بها المتحمسون للاحتساب (ص ص 285-297 ). ومما قاله - اعتمادا على مصادر محلية معاصرة لتلك الفترة: quot;الإخوان البدو يعتقدون أن الحضر ضالون، فعاملوا أهل مكة أول دخولهم لها بمنتهى الشدة، . . .، فكل ما يعتقده الأخ منكرا يزيله بنفسه أو ببندقيته أو بعصاهquot; (ص286).
ولم يرض الملك عبد العزيز عن تلك التجاوزات فكَبَحها وquot;عيَّن قاضيا من أجل النظر في القضايا التي يثيرها نشاطquot; أولئك المتشددين. ثم أصدر مرسوما ملكيا لتأسيس هيئة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر برئاسة القضاء كان أكثر من نصف أعضائها من المكيين بالإضافة إلى بعض المشايخ النجديين. وحدد المرسوم المهام التي تتولاها هذه الهيئة، وكف بذلك أيدي المحتسبين المتطوعين الذين تسببوا في إحداث كثير من المشكلات والفوضى.
وخلاصة القول إن ظاهرة الافتئات على الهيئات الدينية الرسمية في المملكة ليست أمرا جديدا. كما أن تصدي ولاة الأمر لها ليس جديدا كذلك. وربما يحسن البحث عن أسباب تكرار هذه الظاهرة، وهو ما سأتناوله في المقال التالي.
تهافت الفتوى
محمد حسن علوان
الفتوى هي الصدى المعرفي للأشخاص. وإذا اتفقنا أنّ الأشخاص قوام المجتمع، فبإمكاننا أن نجد مدخلاً لعلم الاجتماع في تحليل ظاهرة (تهافت الفتوى) من حيث إنها مرتبطة بمطلقيها ارتباطاً عضوياً
بدا واضحاً في الآونة الأخيرة وجود محاولات جادة لإعادة تعريف الفتوى. ربما لأن التيارات الاجتماعية دفعت بذلك ليتسنى لها تحديد موقفها من الأمر الملكيّ الأخير بتقييد الفتوى. لاسيما وقد أثار صدوره الجدل في التيارين السائدين معاً. جدل التيار الإسلامويّ دار حول ما إذا كان حصر الفتوى لنخبٍ منتمية للمؤسسات الرسمية بالضرورة أو لجميع النخب المؤهّلة علمياً بشكل عام، وكيف سيتم تحديد ذلك في ظلّ الحضور الملحّ لأحكام كتمان العلم في الصورة. التيار الليبرالوي، كما أوضحَت المقالةُ السابقة، دار الجدل فيه حول ما إذا كان في تقييد الفتوى تجاوز على حرية الرأي، أم أنه منعٌ لاستخدام الفتوى كأداة قمع ثقافيّ للتيارات المخالفة. في كل الحالات، هذا الجدل بين التيارات، سواء كان داخلياً بين أفراد التيار أنفسهم أو خارجياً بين التيارات وبعضها، يوشك أن يخرج قريباً من الاحتقان الطارئ والارتباك المؤقت الذي أحدثه الأمر الملكي، ويدخل في مرحلة التحليل الهادئ والواعي. ولعلّ محاولات إعادة تعريف الفتوى ثقافياً واجتماعياً وسياسياً إحدى إرهاصات ذلك. فلم نكن من قبل نطرح هذه الأسئلة على بعضنا، بل ننفعل بالفتوى بحسب ما تمثّله لنا. فالذي يراها حكماً إلهياً يتصرف على هذا الأساس، والذي يراها اجتهاداً بشرياً، أو صراعاً تيارياً، أو وصاية علمية، أو انحيازاً مذهبياً يتصرف وفق ما يتصرف به عادة إزاء هذه الممارسات.
الذي تغيّر اليوم هو أن السياسة تدخّلت. والأثر الثقافي للسياسة في السعودية هو عادة أعمق وأكبر منه في مجتمعات أخرى. ودليل ذلك ما أشارت إليه المقالة السابقة من كون التيارات في السعودية تتسابق فيما بينها لإثبات الاتفاق مع الأمر الملكيّ كما لو أنّ في إعلان هذا الموقف مبكّراً قطعاً للطريق على التيار الآخر من أن يغنم من ذلك القرار ما يعينه على تثبيت مكانته في المجتمع، وتوسيع دائرة هيمنته على الثقافة والتوجهات. الأثر الكبير الذي يحدثه كل تحرك سياسي على مواقف التيارين وحساباتهما يتجلى في هذا الأمر الملكيّ بوضوح. ونتمنى أن يكون هذا الأثر إيجابياً، فلا يزيد الصراع تأزماً ولا المواقف تشنّجاً لأنّ كل الاحتمالات قائمة. وللمتفائلين أن يروا في محاولات إعادة تعريف الفتوى انعكاساً إيجابياً للقرار، وللمتشائمين أن يروا غير ذلك. لاسيما وأنّ هذا القرار الملكيّ مرهونٌ أولاً وآخراً بمعاييره التطبيقية وآليته التنفيذية. وكم من قرارٍ إيجابيّ أفسدته أمزجة التنفيذيين وانحيازاتهم غير المعلنة. أما بالنسبة للتيارات، فالأمر مرهونٌ بقدرتها على الاستفادة من الهدنة التي يُفترض بالأمر الملكي أن يصنعها، واستغلال توقّف ذلك الصراع الديكي في إعادة قراءة المرحلة، وتجديد الخطاب، وفهم التحديات، والمراهنة على أدوات التكامل والتعددية والتغيير النوعي.
نعود للفتوى التي وضعها الأمر الملكيّ في حرزٍ مكين قانونياً، وعلى طاولة التشريح والفحص ثقافياً وفلسفياً. ما هي هذه الفتوى التي اختلف حولها المختلفون حتى استدعى الأمر تدخل القيادة العليا لحسم الموقف، وإعادة النظام إلى البيت الاجتماعي السعوديّ؟ إجابات هذا السؤال، كما سلف، متعددة حسب الرؤى الشخصية والمسبقة حول الفتوى. ولو أن الناس كانوا يملكون رأياً موحداً حول ماهية الفتوى لما اختلفوا حولها أساساً، ولما اختلفوا حول الأمر الملكي بتقييدها. وأكثر هذه الآراء تواضعاً هو رأي كاتب هذه المقالة بأن الفتوى ليست كائناً مستقلاً، بل هي مرتبطة عضوياً بشخص ما، لا معنى لها بدونه. فنحن نقول (أفتى فلان بكذا..)، ولا نقول (هناك فتوى..) وكفى. هذا يعني أنّ الفتوى ليست فكرة مستقلة تبحث عمن يقدحها، ولا حقيقة قائمة تبحث عمن يكتشفها، بل هي امتداد عضويّ لكيان ثقافي ماثل في مرجعٍ ما. أوضح الأدلة على كون الفتوى ليست فكرة مستقلة هو كونها غير قابلة للتداول خارج دائرة الثقة المعرفية التي تضعها الجماعة في صاحب الفتوى، بخلاف الأفكار التي لا تتأثر قيمتها بأهلية مطلقها أو حاملها. أفكار الفلاسفة لم تعبر التاريخ ولم تطف الأرض لأنّ صاحبها هو أرسطو أو شوبنهاور، بل ألمعيّة هذه الأفكار وجودتها منحتاها هذا الاعتبار الفلسفي والخلود التاريخي. على عكس الفتوى التي تستمدّ قوتها وسطوتها من الشخص/الفرد الذي يطلقها. ففتوى المرجعيّات الكبرى تختلف عن فتوى صغار العلماء. والناس تهاب حتى التساؤل حول فتاوى المرجعيات الكبرى فضلاً عن الاعتراض عليها، بينما ترفض دون تفكير كل ما تطلقه مرجعيات التيارات أو المذاهب الأخرى من فتاوى بصفتها خطأ محضا وضلالا مطلقا. العبرة إذن ليست بالفتوى وفحواها، بل بمطلقها ومكانته، وهذا ينفي عن الفتوى (على الأقل حسب تطبيقاتها الاجتماعية المعاصرة) صفة الفكرة المحضة. وبالتالي لا تتحقق لها استقلالية الأفكار بمعزل عن الأشخاص، ولكنها تظلّ ظلاً تابعاً لمن أفتى بها، ومرتبطة به. فإن ارتفع شأنه الرمزيّ في مجتمعه ارتفع شأن فتاواه والعكس كذلك.
الفتوى إذن ليست إلا الصدى المعرفي للأشخاص. وإذا اتفقنا أنّ الأشخاص هم قوام المجتمع، فبإمكاننا أن نجد مدخلاً لعلم الاجتماع في تحليل ظاهرة (تهافت الفتوى) من حيث إنها مرتبطة بمطلقيها ارتباطاً عضوياً. وبالتالي يمكننا القول بأن تهافت الفتوى كان نتيجة لتهافت الأشخاص. وتهافت الأشخاص كان نتيجة لعوامل عديدة يصعب تلخيصها دون إخلال بالصورة الكاملة، ولكن على سبيل المثال نذكر من هذه العوامل: التسابق على تحقيق المكاسب المعنوية السهلة التي يكفلها الانخراط في الصراع التياري، ومحاولة صعود السلم الاجتماعي اعتماداً على معايير غير أصيلة ولا نافعة، وكذلك قلق النخب التقليدية من تسارع وتيرة التغيير الاجتماعي والحضاري وخطرها على مكانتهم الثقافية، والتنافس الشديد على الشواغر القليلة في هرميّات المؤسسة الدينية، بالإضافة إلى تنامي قدرة المجتمع على إعادة مساءلة الرمزيّ والثابت في ثقافة المجتمع وتراثه.
كل هذه الأمور بدت للبعض وكأنّها أعراض خطيرة وغير مسبوقة بينما هي ليست إلا مخاضاً اجتماعياً يمرّ به المجتمع في نموه الحضاري. ونحن بدأنا مرحلة تفكيك الكتل الكبرى، سواء كانت أفكاراً أو أشخاصاً، وإعادة مساءلتها على ضوء دور أكبر للفرد في الاختيار وتقرير المصير. وهي مرحلة ليست قصيرة زمناً، ولا تصاعدية أبداً. بل تمرّ بفترات من الصعود والهبوط، والتباطؤ والتسارع. وهذا التذبذب يمنح عادة مؤشرات خاطئة للبعض، فيرون فيها انتكاسات وتراجعات لا تعكس خط النمو العام للمجتمع.