العراق حالة إنكار جماعية
عصام نعمان
الخليج الأماراتية
الكل لا يقول الحقيقة . الكل في حالة إنكار، لكأنهم اتفقوا جميعاً على الإنكار، كلٌ من زاويته وبما يظن أنه يخدم مصلحته .
كبير الناكرينباراك أوباما أعلن جملة مغالطات فاضحة . قال: ldquo;إن الوقت لم يحن بعد للاحتفال بالنصرrdquo;، وكأن النصر قد تحقق فعلاً لكن موعد الاحتفال به قد أرجئ! قال إنه ldquo;أنهى الدور القتالي للقوات الأمريكية في العراقrdquo;، لكن قادة القوات الباقية في العراق أعلنوا أنها ستظل قادرة على شن عمليات ldquo;للدفاع عن نفسها ومحاربة الإرهابrdquo; . كيف تدافع عن نفسها وتحارب الإرهاب من دون قدرة قتالية ودور قتالي؟!
ثاني الناكرين وزير الدفاع روبرت غيتس ادّعى أن ldquo;تنظيم القاعدة في العراق هُزم، لكنه لم يرحلrdquo; . كأنه يريد أن يقول ldquo;نحن رحلنا (جزئياً) لكننا لم نهزمrdquo; . إذا كان الرحيل هو معيار الهزيمة الكاملة فإن موعد الاحتفال بالانتصار الهزيمة سيكون في أواخر العام 2011 مع جلاء آخر جندي أمريكي عن العراق .
ثالث الناكرين وأكثرهم ادعاءً رئيس الحكومة العراقية المنتهية ولايتها نوري المالكي . فقد أطلق أربع مغالطات من العيار الثقيل .
قال، أولاً، ldquo;إن العراق اليوم سيد ومستقلrdquo; . لم يوضح كيف يكون مستقلاً وسيداً مع بقاء نحو خمسين ألف جندي أمريكي على أراضيه .
قال، ثانياً، إنه ldquo;بتنفيذ اتفاق القوات تكون علاقاتنا مع الولايات المتحدة قد دخلت في مرحلة جديدة بين دولتين متكافئتين وذات سيادةًrdquo; . هكذا كشف المالكي سراً سيهز العالم لمدة طويلة: العراق ندٌّ لأمريكا، متكافئ معها في كل شيء، وسيّد مثلها في أرضه وربما خارج أرضه أيضا!
قال، ثالثاً، إن العراق وشعبه تمكّنا من طي صفحة الحرب الطائفيةrdquo; . كأن كل هذه التفجيرات والاغتيالات والتصفيات الدموية والتدمير المنهجي للمساجد والحسينيات مجرد أشرطة سينمائية جرى تمثيلها وتصويرها في بلد آخر غير العراق!
وقال، رابعاً، أطمئنكم بقدرة قواتنا الأمنية على تحمّل المسؤولية، كأنه ينكر ما أعترف به رئيس أركان الجيش العراقي الفريق بابكر زيباري، أو ينكر عليه حقه في قول الحقيقة: ldquo;إن الجيش العراقي بحاجة إلى عشر سنوات لإكمال بنائهrdquo;!
رابع الناكرين وزير الخارجية هوشيار زيباري، فقد أنكر أن يحدث فراغ أمني في اللحظة التي تغادر القوات الأمريكية العراق، ومع ذلك لم يتوانَ عن تحذير جيران العراق من محاولة التدخل في شؤونه أو التقدم لسد الفراغ!
الغريب ان حالة الإنكار لم تقتصر على قادة أمريكا والعراق الرسميين، بل امتدت إلى بعض اوساط المقاومة والمعارضة . ها هو عزة إبراهيم الدوري، زعيم حزب البعث ومقاومته المسلحة يعلن في بيان أن انسحاب القوات الأمريكية ldquo;انتصار للمقاومة وهرب للاحتلالrdquo; . ماذا عن الخمسين الفاً من القوات الأمريكية التي لم تهرب بعد؟ أليست قوات احتلال؟
في أمريكا، يعرف مؤيدو أوباما كما معارضوه الدافع الرئيسي لسحب قواته من العراق . إنه التراجع الكبير في شعبيته على خلفية تردي الوضع الاقتصادي من جهة وجهوده لاصلاح الامور قبل حلول موعد الانتخابات النصفية في مطلع نوفمبر/تشرين الثاني المقبل من جهة أخرى .إيران بلسان متحدث باسم وزارة خارجيتها فسّرت سحب القوات الأمريكية من العراق بأنه تدبير أملته الانتخابات، لكنها أبرزت تناقض موقف واشنطن من عملية الانسحاب، إذ إنها أعلنت عن سحب قواتها في حين واصلت بناء مزيد من القواعد العسكرية هناك .
رغم حالة الإنكار التي لفت المسؤولين الأمريكيين فإن بعضهم اعترف بالصعوبات والتحديات الراهنة والقادمة . أوباما نفسه قال: ldquo;ما زال هناك الكثير من العمل يتعيّن القيام به ليصير العراق شريكاً فاعلاً لناrdquo; .
غيتس سارع إلى الاعلان أن الوقت ما زال مبكراً للاحتفال بالنصر . اعترف بلا تردد: ldquo;لا أقول أن كل شيء على ما يرام في العراق أو سيكون بالضرورة كذلك ( . . .) لا يزال أمامنا عمل علينا القيام به ومسؤوليات هناكrdquo;، ذلك أن ldquo;الانتخابات الأخيرة لم تفضِ بعد إلى حكومة ائتلافية، وما زال العنف الطائفي من مظاهر الحياة اليوميةrdquo; . كأنه بكلامه هذا يسفّه المالكي حول ما قاله عن ldquo;طي صفحة الحرب الطائفيةrdquo; .
* ما المخرج من هذه الحالة؟ نائب الرئيس جوزف بايدن يحاول الإجابة عن هذا السؤال . فقد حضر إلى بغداد لا للاحتفال بانسحاب القوات الأمريكية بل لحثّ المسؤولين الكبار على الاتفاق على حكومة ائتلافية . اجتمع لهذا الغرض مع معظم زعماء الكتل البرلمانية وشد الرحال أيضاً إلى أربيل حيث اجتمع إلى زعماء الأكراد . ما يسعى إليه بايدن هو تشكيل حكومة تضم الجميع وتمثل نتائج الانتخابات التي جرت قبل نحو ستة أشهر . هل من ضوء في نهاية النفق؟
يبدو أن الأمر لا يتوقف على المسؤولين العراقيين ولا على الأمريكيين فقط . ثمة لاعبان آخران، إيراني وسوري، لهما رأي وتأثير في ما حدث وفي ما يجب أن يحدث . طهران يهمها المحافظة على ما يسمى وحدة البيت الشيعي أياً كان الشخص الذي يتفق عليه أطرافه ليشكّل الحكومة الجديدة . دمشق يهمها وحدة القوى القومية لضمان خروج الأمريكيين أو إخراجهم، ولتشكيل حكومة وطنية متوازنة تعكس روحية التحالف القائم بين سوريا وإيران . ربما هذا ما سيبحثه الرئيس بشار الأسد مع الرئيس الإيراني خلال زيارته القادمة لطهران .
غير أن ثمة بعداً آخر للأزمة يتعلق بأفغانستان وبالتالي بعلاقة أمريكا بإيران . فالرئيس أوباما قال صراحةً في خطبة ldquo;إنهاء الدور القتاليrdquo; لقواته في العراق إن من دواعي الإنسحاب تركيز الجهد القتالي في أفغانستان ضد طالبان، ومعالجة الازمة الاقتصادية في أمريكا نفسها . كلا الأمرين يتوقفان على موقف إيران . ذلك ان احتمال معاناة طهران من العقوبات الدولية والأمريكية المفروضة عليها قد يدفعها إلى دعم طالبان للضغط على أمريكا في أفغانستان وربما دعم المقاومة العراقية للضغط عليها في العراق أيضاً .
إدارة أوباما تحاول ضخ المزيد من القوات إلى أفغانستان لكسر شوكة طالبان قبل ربيع العام المقبل كي تتمكن من الخروج من العراق بسلام وبعد ذلك من أفغانستان نفسها . ولكن، ماذا لو صمدت طالبان بدعم من طهران أو من غير دعمها؟ هل يضطر أوباما إلى عقد صفقة مع إيران ليحفظ ماء الوجه، أم إن ldquo;إسرائيلrdquo;، ومن ورائها زعماء الحزب الجمهوري، ستحاول توريط أمريكا بحرب مع إيران لحسابات إقليمية تخصها هي ولحسابات انتخابية تخص الجمهوريين الراغبين في إضعاف أوباما واسترداد البيت الأبيض في الانتخابات الرئاسية القادمة؟
أسئلة وتحديات كثيرة لن يستطيع أوباما مواجهتها بمزيد من الإنكار، إنكار حقيقة الاوضاع المتردية في المنطقة ومسؤولية الولايات المتحدة عنها .
غازي العريضي
بعد الاحتلال: عراق مقهور
الاتحاد الإماراتية
بعد سبع سنوات ونيّف من الاحتلال الأميركي، انسحبت قوات الولايات المتحدة القتالية من العراق الذي دخل مرحلة جديدة من المجهول.
لكن قبل أن نستغرق في الحديث عن النتائج، ينبغي التوقف عند معنى سحب القوات القتالية، للسؤال: ما هي نوعية القوات الباقية حتى المرحلة الأخيرة؟ أهي قوات أمنية، أم تقنية، أم إدارية، أم فنية، أم تربوية، أم اقتصادية، لتحقيق الأهداف التي لم تحققها القوات القتالية؟
في كل الحالات، فإن الولايات المتحدة، بإدارتها وأجهزتها الأمنية واستراتيجياتها المعلنة على الأقل وقواتها القتالية، هي التي هزمت وانسحبت من العراق. ومن الطبيعي أن يسأل الجميع ماذا حققت واشنطن من وراء احتلالها للعراق إذاً ؟
هل تحققت الديمقراطية في بلاد الرافدين وهو يعيش حالات فوضى وقمع ورئيس حكومته الحالية يهدد بالويل والثبور وعظائم الأمور والدم والقتال إذا لم يعد إلى رئاسة الحكومة بعد انتخابات لم تعطه هذه الفرصة؟
وأين الديمقراطية في ظل المذهبية والعرفية والطائفية والاستزلام التي بدأت تستشري قي البلاد؟ وهل يكفي القول إننا تخلصنا من صدام؟ هذا أمر مهم، وأكرر القول إنني لم أكن يوماً مع ذاك النظام ولكن ما جرى في سنوات الاحتلال وحتى اليوم جعل كثيرين يترحمون على تلك الأيام بعد انكشاف أميركا وسقوطها؟ وأين الديمقراطية والتغيير وتطوير أنظمة التعليم وحقوق الإنسان، في ظل اغتيال العلماء، ومعاناة الطلاب والأساتذة على حد سواء وانهيار مستوى التعليم، وعودة الأمية إلى البلاد؟ وفي ظل تهجير الملايين من العراقيين، وخضوع كثيرين في الداخل للتصفية والانتقام والإرهاب؟ واستباحة كرامات الناس لا سيما النساء اللواتي تعرضن لحالات من الاغتصاب الجماعي، مما دفع بأسرهن إلى الهجرة.
وأين الكهرباء والماء في أغنى بلد عربي؟
اليوم، النفط ينهب، ولا ماء ولا كهرباء والشعب العراقي يتعرض للجوع، ومؤسسات مستباحة وبطالة وإذلال، ومجاعة وأمراض ولا مستشفيات بالمستوى المطلوب، بعد أن كان العراق أغنى دولة بالكفاءات والعلماء والأطباء والكتّاب والأدباء والشعراء والمفكرين والأساتذة الجامعيين، وتوصّل إلى محو الأمية بالكامل!
تنسحب أميركا اليوم مهزومة، وبلاد العراق مأزومة.
أميركا سقطت في تهمة وجود أسلحة الدمار الشامل، وكان السقوط مدويّاً إذ تبين أن القرار كان متخذاً عن سابق تصوّر وتصميم باحتلال البلد.
ويبدو أن الولايات المتحدة لم تحقق أي شعار من الشعارات التي رفعت، ولم تتمكن من تغيير أنظمة أخرى لا سيما النظام السوري، بل اضطرت إلى تغيير كل أساليبها وسياساتها للانفتاح عليه، ولم تتمكن من تحقيق أي هدف، إلا الهدف الأساسي الذي تريده إسرائيل: الخراب والدمار والفوضى وإثارة النعرات المذهبية والطائفية وتأليب العرب على بعضهم البعض.
ومن المؤسف القول إن إسرائيل المستفيد الأول من الاحتلال، وفي الوقت نفسه بعض الذين ينظرون إلى أنفسهم أنهم القادة التاريخيون للعراق الجديد، ويمارسون ممارسة النظام القديم، ويلتحقون بالاحتلال أو بقوى خارجية ولا يحققون شيئاً لبلدهم. هذه هي الحقيقة المؤلمة في الداخل العراقي.
وإذا كان المحلّلون والسياسيون قد أجمعوا في الفترة السابقة على أن الإدارة الأميركية السابقة قد أعدت خطة للاحتلال ولم تعد خطة لما بعده، وهذه كانت النتائج، فإنه يمكن القول إن الإدارة الحالية التي ورثت أعباء وأخطاء الإدارة السابقة قد اتخذت قراراً بالانسحاب وأعدت خطة مبرمجة لذلك لكنها بالتأكيد لم تقدم خطة لما بعد الانسحاب!
احتلال بخطة، وانسحاب بخطة. ولا خطة بعد الاحتلال، ولا خطة بعد الانسحاب. والعراق غارق في الفوضى، ولا حكومة فيه بعد أشهر من إجراء الانتخابات.
كتبت سابقاً كان العراق بلاد ما بين النهرين، فأصبح بعد الاحتلال بلاد ما بين القهرين، قهر نظام صدام وقهر الاحتلال، واليوم بعد الانسحاب، يبدو العراق بلاد القهر من قهر صدام، إلى قهر الاحتلال، إلى قهر السلطات، والأخطر إلى قهر الانسحاب لأن كثيرين يتخوفون من الانسحاب، حتى بعض خصوم الولايات المتحدة يخشون نتائجه، إذ لا بديل، ولا دولة ولا مؤسسات ولا حكومة.
هذه هي نتيجة السياسة الأميركية في العراق.