مصطفى الفقي

تزعجني في الآونة الأخيرة ممارسات متناثرة أرى فيها مساساً مباشراً بهوية الوطن وتماسك نسيجه، كما ألاحظ شيوع مواقف تبدو بعيدة عن روح العصر، وأشعر وكأن هناك ما يشدنا في اتجاه آخر ويدفعنا نحوrdquo;الدولة الدينيةrdquo; بكل مظاهر وجودها وتأثير القبول بها للخروج على الإطار الذي تسعى إليه الدولة الحديثة، وأنا أقر بداية أنني أكتب هذه السطور إحساساً مني بالمخاطر الداخلية والخارجية التي تحيط بنا وتعيش معنا، لذلك سوف أسعى إلى رصد عدد من الظواهر المؤرقة التي بدأت تمارس آثارها القوية في حاضرنا ونتائجها المؤكدة على مستقبلنا، ولعلي أوجز بعضها في ما يأتي:

* أولاً: إن تنامي الشعور الديني أمر مطلوب، وخلق الوجدان الروحي في الإنسان قد يكون مصدر توازن له ولأسرته ولمجتمعه، فهو أمر لا غبار عليه ولا خوف منه، ولكن الجوانب السلبية التي قد تبدو كالشوائب إلى جانب الظاهرة الدينية هي مصدر القلق ومبعث التخوف، فعندما تحل معادلة ldquo;الحلال والحرامrdquo; بديلاً لمعادلة ldquo;القانوني وغير القانونيrdquo;، فإننا نكون قد ابتعدنا عن المرحلة الوضعية إلى التحليق في سماوات العقيدة الروحية وآفاق المشاعر الدينية وهنا نختلف، فالدين في ظني مخزون ذاتي من الإيمان بالله والإحساس بالضعف أمام عملية الخلق ووجود الحياة، وهو بذلك يربي الوازع الأخلاقي ويصنع منظومة من القيم والمثل يجب أن تنعكس سلوكاً في حياة الناس، ولكن ذلك لا يضع قيداً على الممارسة الواقعية لجوانب القانون الوضعي وتطبيقاته التي تنبع من ممارسة الحياة وروح العصر وطبيعة الظروف، لذلك فإن ldquo;الدولة المدنيةrdquo; هي الخيار المعاصر للتعبير عن الأمم والشعوب والمجتمعات، وإذا كان تعبير ldquo;الدولة المدنيةrdquo; يوحي للبعض بأنها تخاصم الأديان أو ترفض الجوانب الروحية في الحياة، فذلك وهم بل وافتراء لأن ldquo;الدولة المدنيةrdquo; تعني ببساطة الاحتكام إلى القانون وإعمال الديمقراطية والأخذ بمبدأ المواطنة بين الأفراد ووضع الدين في مكانه المقدس من دون الهبوط به إلى صراعات السياسة أو دهاليز الحكم، وأنا أظن أن الإسلام لم يعرف ldquo;الدولة الدينيةrdquo; إلا ببعض السمات المحدودة في ldquo;عصر الراشدينrdquo;، كما أن رفع شعار ldquo;الحاكميةrdquo; هو حق يراد به باطل، فالحضارة الإسلامية عرفت دائماً تقاليد الحكم المدني وكان الحاكم أقرب إلى عرش الدنيا منه إلى إمامة الدين .

ثانياً: عندما أتصل بطبيب في عيادته وأسأل الممرض على الهاتف إذا كان الطبيب موجوداً أولا فإنه يجيب في عفوية ldquo;إن شاء اللهrdquo;، وأنا لست ضد فعل المشيئة تحرزاً وتبركاً، ولكنني أرى أن إقحام مثل هذه المقولة التي تحمل اسم الله تعالى لا مبرر لها هنا فليس ذلك مكانها! كما أن الاستغراق في طلب الفتوى الدينية في القضايا الحياتية التي لا تمس الدين تبدو لي هي الأخرى أمراً مفزعاً، كما أن الإفراط في إقحام العقيدة الروحية في كل دروب الحياة اليومية ومفردات سلوك الإنسان هو أمر لا تفسير له، ويدعو إلى إلقاء تبعة القرار الرشيد على مفاهيم دينية لا ذنب لها في أخطاء البشر . إننا في عصر العلم الحديث والتفكير المتفتح، وقد دعا الإسلام الحنيف إلى كليهما وهو الذي جعل الدنيا حقيقة، فيها معاشنا ولم يطلب الاستغراق الغيبي بإقحام الدين في ما لا مبرر له . . أيها السادة إنني أشعر بفزع وأنا أرى العلم يتراجع لمصلحة الخرافة وأشاهد عشرات الجرائم ترتكب كل يوم باسم الدين بينما هي عدوان عليه وظلم له .

ثالثاً: أقول صراحة وعلى الجانب الآخر إن لجوء المسيحيين المصريين إلى الكنيسة في كل صغيرة وكبيرة وإقحامها في مشكلاتهم اليومية هو خروج على النص في ما يتصل بحقوق الدولة المدنية، وأنا أسلم بداية بأن هناك شأناً قبطياً يحتاج إلى معالجة، وأن هناك ملفاً للوحدة الوطنية يتطلب الرعاية، وأوافق قداسة البابا شنودة الثالث (أطال الله في عمره) عندما يقول إنه لا يرى وجود اضطهاد أو تمييز ضد الأقباط، ولكن يشعر أحياناً بالتهميش لدورهم وأظن أننا قد قطعنا شوطاً كبيراً من أجل إقرار مبدأ المواطنة والمساواة بين المصريين والمصريات في المراكز القانونية من دون تفرقة بسبب الدين، فبدأ أشقاء الوطن يتبوأون مواقعهم المستحقة في عدد من القطاعات ومنها على سبيل المثال القضاء والسلك الدبلوماسي، ولكن بقيت أمامهم بعض الطموحات المشروعة في قطاع الجامعات وبعض الأجهزة الأمنية والمواقع السيادية، وبرغم هذا الإنجاز الذي تحقق إلا أن أشقاء الوطن يصنعون أحياناً من الحبة قبة! فإذا اختلفت زوجة كاهن الكنيسة معه لأسباب عائلية وتركت المنزل فإن المسلمين قد خطفوها! وإذا أحبت فتاة مسيحية مسلماً وتزوجته بحكم القانون جرى إعدام الزوج في وضح النهار! ومطران إحدى المحافظات لا يلجأ إلى القضاء وحكم القانون ولكنه يلوذ بالكنيسة ويسعى لتحريض الأقباط وزرع بذور الفتنة الطائفية! فأي دولة مدنية يمكن أن نطالب بها أو نسعى إليها بعد ذلك؟ خصوصاً أن تلك الدولة وحدها هي حامية الأقليات العددية قبل غيرها، ثم تتناثر المعلومات المغلوطة والأخبار المغرضة في الخارج دون مراعاة لظروف وطن ولا مستقبل شعب! إنني أربأ بالكنيسة القبطية صاحبة التاريخ الوطني الطويل والمكانة الروحية العريقة في أن تتقوقع على نفسها أو تنكفئ على ذاتها ويكون مظهر انتمائها الوحيد للدولة المدنية هو موائد الوحدة الوطنية كل رمضان . إننا نتطلع إلى قداسة البابا بمكانته الرفيعة وحب المصريين والعرب له مسلمين ومسيحيين بأن يواجه ذلك التيار الذي يحاول أن يعصف بالدولة المصرية المدنية، وأن يخلق جيوباً دينية في أحشاء الدولة القائمة، إذ يجب أن يلوذ المصريون جميعاً بقانون الدولة دون اللجوء إلى قياداتهم الروحية أو مؤسساتهم الدينية، وإذا كنت أحتج على بعض مظاهر الابتزاز المسيحي للدولة فإنني أرفض وبشدة محاولات التمييز وتقاليد التهميش للأقباط سياسياً واجتماعياً ldquo;فالدين لله ومصر للجميعrdquo; .

* رابعاً: إن هيبة الدولة المصرية هي الضمان الوحيد لإيجاد مظاهر العدل الاجتماعي والمساواة السياسية والقانونية بين مواطنيها، وهي الإطار المشروع لفلسفة السلطة المدنية والحكم الرشيد الذي يرتفع فوق الاختلافات الدينية والفوارق الطائفية، ويؤمن بأن مصر لكل أبنائها ومن يريد أن يحتج فليذهب إلى ساحة البرلمان لا ساحة الأزهر ومن يريد أن يشكو، يقف أمام دار القضاء العالي، وليس خلف أسوار الكنيسة، فمصر دولة عريقة ينبغي أن تنهض فيها المؤسسات بدورها لا أن تكون فريسة للتجاوزات على مكانتها، فالدولة المدنية هي وحدها الدولة العصرية ومن يقول غير ذلك إنما يبيع الوهم ويتاجر بالشعارات ويدغدغ المشاعر على حساب المصلحة العليا للوطن .

* خامساً: لقد أثبتت الدراسات الحديثة أن التعايش المشترك وأن المجتمعات القائمة على التعددية الدينية هي أسرع في الاتجاه نحو التقدم، وأكثر استيعاباً لروح العصر، وأقدر على امتصاص مظاهر التحضر وعناصر الارتقاء، فالتعددية نعمة وليست نقمة لأن المجتمعات متعددة الألوان أكثر ازدهاراً وأشد بريقاً أمام الغير، وأكثر استجابة لروح العصر وتقاليده الجديدة، كما أن الأقليات العددية تمثل غالباً مركزاً نشطاً في الحياة الاقتصادية وتلعب دوراً فاعلاً في التطور الاجتماعي بحكم سرعة استجابتها للأفكار الوافدة وفهمها الأكثر للروح الأجنبية، ونحن في مصر لا نجادل في أن أشقاءنا الأقباط يمثلون شريحة ممتازة في نسيج هذا الوطن، ونتطلع جميعاً إلى مظلة الدولة المدنية لكي تكون هي الإطار العام لحياتنا والخريطة الواضحة لمستقبلنا .

هذه خواطر طافت بذهني في أيام صام فيها الأقباط ldquo;صيام العذراءrdquo; ويصوم فيها المسلمون الشهر المبارك، ويتطلع الجميع إلى مستقبل مصر المحفوف بالمخاطر والمملوء بالتحديات، ولكن الأمل يبقى وسوف يظل دائماً في مصر المعطاءة تلك الدولة النهرية القديمة التي علمت الدنيا وألهمت الإنسانية وقدمت مفاتيح الحضارة لكل الشعوب والأوطان، لأنها كانت دائماً دولة مدنية تحتضن كل أبنائها بل وكافة الوافدين إليها من دون اضطهاد أو تمييز ولا حتى تهميش، إنها مصر التي نريدها دولة مدنية حديثة بروح عصرية خالصة ورؤية وطنية كاملة .