باريس
شباط ( فبراير) 1903 ' أربعمئة جنيه كاملة دفعتها ( إميلين) اليوم ثمنا للوحة امرأة رسمها ( رنوار).. إنه مبلغ كبير، أنا لا أتصور أن يدفع كل هذا المبلغ في لوحة واحدة! لكن ( إميلين) تقول: إننا رابحون من هذه الصفقة، ومن يدري فقد نكون كذلك؟ ' كان هذا مقطعا من مذكرات ( محمد محمود خليل بك) صاحب القصر الشهير الواقع على نيل الجيزة، والحائز أغلى لوحات العالم، ( زهرة الخشخاش) لفنسنت فان كوخ، و( الحياة والموت) لـبول غوغان.
( البك) الثري في باريس
ولد محمود خليل عام 1877 في عائلة ثرية تمتلك أراضيَ زراعية شاسعة؛ لأب من ملاك الأراضي، ولأم هي زوجة ثانية، وتلقى تعليمه في المدارس الأجنبية، كان لا يرتدي الطربوش عادة، وكان وجهه متجهما بجدية ظاهرة.
درس خليل الزراعة، لكنه سافر إلى باريس لدراسة القانون في جامعة السوربون وهناك قابل ( إميلين هيكتور) الفتاة المنتمية إلى الطبقة الفرنسية المتوسطة، والتي كانت تدرس الموسيقى، وتزوجا عام 1901. وقد عرف ( البك) هواية جمع روائع الأعمال الفنية عن طريق الزوجة الشابة الجميلة، رغم التكلفة الكبيرة لهذه الهواية، وهذا ما يتضح لنا من الفقرة الواردة في مذكراته، ورغم أن 400 جنيه كان مبلغا ضخما كي يُدفع ـ وقتها ـ ثمنا للوحة، فإن ثمن هذه اللوحة الآن يتجاوز بالفعل (40) مليون جنيه.
ويُعد ( البك) من أكثر الشخصيات المصرية التي يحيط بها الغموض، وتتضارب حولها الآراء، فهو من ناحية رجل سياسة مقتدر شغل منصب الوزير وكان عضوا في مجلس الشيوخ، ثم انتُخب رئيسا للمجلس لثلاث دورات متتالية.
ولكنه يُعرف أكثر بمجموعته الفنية النادرة، وهو من أكبر أغنياء عصر ما قبل ثورة يوليو، الذين عُرف عنهم البخل الشديد، لكنه صاحبُ واحدةٍ من أكثرِ الهباتِ العامة سخاء؛ فقد وهب بلده وأهله ـ بل والعالم كله ـ متحفا فنيا نادرا، ويُذكر له أنه كان المسؤول الأول عن الجناح المصري في معرض باريس الدولي للفنون حين أقنع الملك الشاب ( فاروق) الذي لم يكن قد مضى إلا عام واحد على تولّيه عرش مصر بالأهمية الحضارية لوجود مصر في هذا المحفل الدولي.
وقد أقيم المعرض في حدائق ( التروكاديرو) الواقعة قرب برج ( إيفل)، وافتتحه رئيس جمهورية فرنسا آنذاك ( ألبير لوبران)، كما كان الرجل أحد مؤسسي جمعية ( محبي الفنون الجميلة) عام 1923 مع الأمير ( يوسف كمال)، وفي عام 1928 حين أراد الملك ( فؤاد) إقامة متحف للفن الحديث عَهِد بذلك إلى ( محمود خليل) الذي كان يسافر إلى الخارج لاقتناء اللوحات للمتحف الجديد الذي استقر به المطاف حاليا في متحف الجزيرة الواقع في أرض الأوبرا.
خبير الفنون الكلاسيكي
وقد كان (البك) خبير فنون، وصاحب ذوق كلاسيكي لا يميل كثيرا إلى التجارب الجديدة في الفن؛ ففي الوقت الذي كان يقتني فيه لوحات مدرسة القرن التاسع عشر التأثيرية لـ ( مونيه)، و( رينوار)، و( سيزلي)، و( بيارو) وغيرهم، كان الفن الفرنسي قد ثار منذ فترة على مدرسة القرن التاسع عشر، فقدم ( هنري ماتيس) مدرسته ذات الألوان الوحشية المعروفة باسم ( الفوف Fave)، وقدم كل من ( براك) و ( شاجال) مدرستيهما التكعيبية والتعبيرية، بل إن ( بيكاسو) و( دالي) كانا متواجديْن أيضا على الساحة بتجاربهما غير المسبوقة، لكن ( خليل) لم يكن يسمح لأي من هؤلاء بأن يقتحم مجموعته الفريدة، التي ظل يدعمها حتى رحيله عام 1953.
ولم تقتصر اهتمامات الرجل على الفنون وحدها؛ فقد كان محبا للموسيقى والأدب حيث ترك في مقره مكتبة موسيقية لا يستهان بها، كما زخر القصر بمجموعة نفيسة من الكتب تُقدر بحوالي 400 كتاب معظمها باللغة الفرنسية.
وقد لا يعرف البعض أن ( البك) كان أحد الضيوف الدائمين في منزل عميد الأدب العربي د. طه حسين، وكان منزل ( خليل) نفسه صالونا دائما؛ حيث كان يدعو الوزراء والوجهاء وعلية القوم إلى مائدة العشاء في الأول من كل شهر.
أما عن المواقع السياسية التي شغلها؛ فقد كان رئيس مجلس الشيوخ بين عام 38، 1942 حين انتُخب بدلا من ( محمود حمزة بك)، كما كان وزيرا للزراعة في وزارة ( مصطفى النحاس باشا) عام 1937 في وقت كانت فيه وزارة الزراعة تُعتبر من أهم الوزارات، كما كان أيضا أبرز رجال الوفد في الثلاثينيات والأربعينيات.
حكاية قصر صار متحفا مرتين
أما القصر الواقع على نيل الجيزة، والبالغة مساحته حوالي ثمانية آلاف متر فقد بناه ـ في بداية القرن العشرين ـ أحد أفراد عائلة ( سوارس) اليهودية المصرية ممن كان لهم نشاط كبير في مجال البنوك والأعمال، ولما لم يكن قد رُزق بأطفال انتقلت ملكية القصر حسب وصية ( روفائيل مناحم سوارس) إلى ابنة زوجته من زواج سابق وذلك بعد وفاته في 1909، ثم بيع القصر إلى أحد أفراد العائلة المالكة عام 1925 إلى أن اشتراه في الأربعينيات ( محمد محمود خليل بك) الذي ذهب بعد وفاته إلى زوجته.
وقد بُني القصر على طراز ( الآرديكو، والآرنيفيو Art Neauveayx) المنبثقين من طراز ( الروكوكو)، ويتكون من أربعة مستويات، و به سلم رئيسي يصل بين الدورين الأرضي والأول، وكذلك سلم فرعي ومصعد يخدم جميع الأدوار، وهو بهذا يتكون من ثلاثة طوابق ومخزن وبدروم.
وقد تم تحويل البدروم إلى مكتبة ـ حاليا ـ تضم ما كان يمتلكه ( البك) من كتب بعد أن أصبح القصر متحفا، والذي كان قد وهب محتوياته إلى زوجته الفرنسية بعقد مسجل في 19 ايار ( مايو) 1947؛ أي قبل وفاته بست سنوات، وقد كان من الممكن أن تنتقل الملكية بلا ضجة، ولكن ما إن تُوفي الرجل في 29 كانون الاول ( ديسمبر) 1953 حتى قام صراع آنذاك؛ فقد اعترضت السيدة ( سعاد راشد) الزوجة الثانية لـ ( محمود خليل) ـ التي كان قد تزوجها في أوائل الأربعينيات في ظروف يكتنفها نفس الغموض الذي أحاط برجلنا ـ اعترضت على حصول الزوجة الفرنسية على القصر ومحتوياته.
ولكن المفاجأة ظهرت حين توفيت السيدة ( إميلين) في آذار( مارس) 1960 عن 84 عاما وأعلن ( حسن الإبراشي) محاميها أن موكلته قد وهبت القصر المتنازَع عليه إلى الدولة، ليصبح متحفا.
وبعد أن توفيت السيدة ( إميلين) التي كانت قد أشهرت إسلامها قبل سنوات؛ دُفنت في القبر الذي بناه زوجها عام 1949 في منطقة ( الإمام الشافعي)، والذي كان مكونا من غرفتين؛ دفن هو في إحداهما، ودفنت هي في الأخرى ـ وبعد أن انتهت مراسم جنازتها وقف ( الإبراشي) يقرأ أمام الورثة ومندوبي بيت المال - الذين جاؤوا لتحصيل الضرائب على العقد ـ تفاصيل وصية موكلته التي أوصت بأن يؤول القصر بكل محتوياته من لوحات وتحف وأثاث إلى الدولة ليتحول إلى متحف، وقد كان لها ذلك خلال خمسة أشهر من وفاتها، وكانت تعريفة الدخول آنذاك خمسة قروش مصرية.
شهادة المصدر
إلا أن المتحف تم إخلاؤه عام 1972، ليلحق بمسكن الرئيس السابق ( أنور السادات) وتم تخزين الأعمال العظيمة التي كان يحتويها، على الرغم مما قاله ( توفيق الحكيم) من أن الأمم المتقدمة اعتادت تحويل القصور إلى متاحف، وليس العكس.
وقد افتُتح المتحف لأول مرة عام 1962، ثم أُعيد افتتاحه في ايلول ( سبتمبر) 1995 بعد تطويره، وقد أُنفق عليه حوالي عشرين مليون جنيه مصري.
كانت هوية الأعمال الفنية التي اقتناها ( خليل) قد تأصلت بمرور الوقت خلال نصف قرن بين عامي 1903 و 1953، فقد استعان بخبراء ـ غير زوجته ـ من بينهم اليهودي ( ريشار موصيري)، الذي كان يحتفظ بجميع وثائق مقتنيات ( محمد محمود خليل) خاصة ما يُعرف لدى العاملين في مجال التحف القديمة ( بـشهادة المصدر) التي تحدد كيفية حصول مقتني اللوحة عليها من مزاد كذا، أو قاعة عرض كذا.
وقد استعانت الدولة ـ حين آل المتحف إليها ـ بالناقد والمؤرخ ( عبد الغني صدقي الجباخنجي) الذي أصدر أول دليل لمجموعة ( محمد محمود خليل) خلال حياته، و( بـموصيري) الذي كان قد شارك في شرائها.
والسبب الرئيسي في شك غير المتخصصين في أصالة مجموعة ( خليل) هو اختفاء جميع الوثائق الخاصة بالمجموعة، والتي كانت في حوزة ( موصيري) بعد سفره حتى إن الدولة لم تكن تملك أية ( شهادة مصدر) لأيٍ من اللوحات المجموعة.
باريس تؤكد أصالة المقتنيات
ولكن وزارة الثقافة حين عرضت مجموعة ( البك) والأعمال الفرنسية الأخرى الموجودة في متحف الجزيرة في متحف ( الأوروساي بباريس) عام 1994؛ أي في مقر دار الفن الفرنسي، كان في جانب منه بمثابة شهادة دولية مؤكدة أصالة هذه الأعمال وإنهاء ما دار حولها من تضارب.
فقد قام الفرنسيون بتأصيل مصادر كل لوحة عن طريق العودة إلى جهات البيع التي كانت معروفة في النصف الأول من القرن العشرين، والاطلاع على سجلات مبيعاتها بحثا عن اسم مشتريها فوجدوا أكثر من مرة ذكرا ( لمحمد محمود خليل بك) أو ( مدام محمود خليل)، وهكذا أمكن مثلا معرفة تاريخ لوحة ( بول غوغان 1848ـ 1903) الشهيرة والمعروفة باسم ( الحياة والموت) التي أنجزها الفنان عام 1889 فداخل السجلات الفرنسية كانت ضمن مجموعة ( إدوار برناديس) الخاصة في ( كوبنغاغن) منذ 1893، ثم انتقلت إلى مجموعة ( شوسترمان) في باريس؛ حيث اشتراها ( محمود خليل) إلى أن آلت ملكيتها إلى الدولة المصرية عام 1960 بموجب وصية حرم ( البك).
كما أصبح مؤكدا أيضا أن تمثال ( رودان 1840-1917)، المعروف باسم ( بلزاك مرتديا الردنجوت) كان ضمن مجموعة ( هنري دي برين)، ثم انتقل إلى مجموعة (برينو)، ثم عُرض في ( غاليري جورج بيتي)؛ حيث اشتراه ( محمد محمود خليل بك ـ الجيزة ـ مصر).
حتى إن اللوحات التي اشتراها في مصر أمكن تعقب أصلها وتسجيلها؛ فقد ذكر ( كتالوغ معرض الأوروساي) أن لوحتي: ( ديلا كرواه 1798 ـ 1864) و( كوربين 1819-1877)، قد اشتراهما ( محمود خليل) في 14 من آذار ( مارس) 1947 من مزاد أقيم بمنزل ( بنزيون) في القاهرة، وهو صاحب المحلات التي لا تزال تحمل اسمه حتى الآن، وكان عضوا في جمعية محبي الفنون الجميلة التي كان يترأسها ( خليل).
' زهرة الخشخاش'
أما أشهر الأعمال الموجودة في المتحف فهي لوحة ' زهرة الخشخاش' للفنان الهولندي الأشهر ( فنسنت فان غوخ)، فقد أثيرت حولها ضجة كبيرة في حزيران ( يونيو) 1988 حين أعلن ( د. يوسف إدريس) على صفحات جريدة ' الأهرام' أن اللوحة الموجودة بالمتحف نسخة مزيفة، وأن الأصلية قد بيعت مؤخرا في إحدى أكبر صالات المزادات في لندن بمبلغ 43 مليون دولار.
وكانت لوحة ' زهرة الخشخاش' قد تعرضت لعملية سرقة غامضة في عام 1978 أعيدت بعدها بقليل إلى المتحف بطريقة أكثر غموضا، وهو ما جعل البعض يقول إن الغرض من السرقة كان نسخ اللوحة، وأن الموجودة هي النسخة المقلدة، والأصلية هربت إلى الخارج.
وقد تصادف أن اختفاء اللوحة قد تزامن مع زيارة ( ريشار موصيري) للقاهرة ونُشر في ذلك الوقت أن الشرطة المصرية أجرت معه تحقيقا حول هذا الموضوع غادر على إثره البلاد.
والواقع أن اختفاء لوحة ' زهرة الخشخاش' أثار ضجة في العالم كله، خاصة بعد إبلاغ ( البوليس الدولي) الذي أبلغ أوصاف اللوحة لجميع الموانئ الدولية، فضيق بذلك الخناق حول السارق، فاستحال عليه تهريب اللوحة؛ فأعادها من حيث أخذها دون أن يتعرف عليه أحد.
ولكن أيا كان وراء هذا الاختفاء الغامض فإن اللوحة التي فحصها الخبراء الفرنسيون، والتي قبلت الحكومة الفرنسية على نفسها دفع مبلغ (50) مليون دولار لمصر في حالة ضياعها أو تلفها، قد حصلت على شهادة بأصالتها من أكبر المراكز الفنية في العالم، فانجلى بذلك جانب آخر من الغموض والتضارب في الآراء اللذين أحاطا بلوحات مجموعة ( محمد محمود خليل).
المصادر
1 ـ محمد محمود خليل: الرجل والمتحف، محمد سلماوي، مصطف الرزار، وزارة الثقافة، متحف محمود خليل وحرمه 1995.
2 ـ جولات الكاتب الميدانية.
3 ـ حوارات مع بعض أمناء المتحف 2000.
التعليقات