ميشيل كيلو
عرفت منطقتنا العربية، خلال نصف القرن المنصرم، أنواعا مختلفة من العنف، أكثرها شدة ودواما العنف الإسرائيلي ضد الشعب الفلسطيني، الذي استهدف اقتلاعه من وطنه في الداخل، ومنعه من النضال لاستعادة حقوقه فيه وتحريره، من الخارج.
في العقود الأخيرة، نقل نشوء الأصولية ونمط الحكم السلطوي العنف إلى صعيد جديد، داخلي أساسا، انصب في حالة الأصولية على قطاع من المواطنين يرفضها، وفي حالة السلطوية على عامة الشعب، مع أن مدى العنف ونوعه بقي مقيدا في الحالة الأولى بمحدودية قدرات الأصوليين، وفي الثانية بضعف مقاومة المجتمعات لنظمها. غير أن غزو العراق افتتح حقبة مختلفة من العنف، نوعت وكثفت أشكاله، وصعدت شدته بدرجة لم تعرف من قبل، مما يجيز القول: إن المنطقة العربية شرعت تذهب في الأعوام الماضية نحو عنف يتسم باتساع رقعته، وازدياد أعداد المنخرطين فيه، وعمق تأثيره، وأنها ستعيش من الآن فصاعدا في ظل عنف يمكن أن ينفجر في أي وقت وأي مكان، لن يقتصر على أفراد بعينهم، بل يشمل قطاعات بشرية واسعة منضوية في تكوينات اجتماعية معترف بشرعيتها. سيحدث هذا، ليس فقط لأن المشهد العراقي عودنا على القتل والدمار اليوميين، بل كذلك لأنه بيّن كم هي هشة روابط الوطنية التي تجمع هذه المكونات، وكم يمكن لروابط دنيا: غير وطنية وغير مجتمعية، أن تقوض ما عداها وتحل محله، مع ما يلازم انفلاتها من نزعة إلى تدمير الآخر والذات، ومن شحنات عنف بلا حدود، تسوغه أدلة مقدسة مستمدة من حجج وذرائع مذهبية / دينية، تبطل أي وازع أخلاقي أو إنساني، ينقلب من تسيره إلى وحش يرتكب أفظع الجرائم عن إيمان.
ثمة تطورات ثلاثة أدت إلى إفلاس السياسة كأداة لحل النزاعات بين الجماعات الوطنية وداخلها، وبينها وبين السلطة، وإلى إضفاء طابع مجتمعي، بعد فردي ومعمم على العنف، الذي غدا وسيلة إثبات الذات وقهر الآخر، وتحقيق أهداف كانت تناط في الماضي بالسياسة. هذه التطورات هي:
1 خروج الشعب العربي، والمواطن العربي العادي، خالي الوفاض من السنوات الخمسين المنصرمة، بعد فشل سائر الوعود التي قدمت له، على الصعيدين العام والخاص، القومي والشخصي، السياسي والاجتماعي، الاقتصادي والثقافي، وانفراد من قدموها بالسلطة والثروة وانقلابهم من جهة كانت تتبنى طموحاته إلى سلطات وحكومات معادية له. يشعر المواطن في أقطار عربية عديدة بالإحباط والخيبة، ويحس أن من وضع ثقته فيهم وصدقهم خدعوه واستولوا على ما لديه، وعاملوه بفظاظة وقسوة رفعت عنه أية حماية من عرف أو تقليد أو قانون، وأهانوه في شرفه وكرامته، وأفقروه وأفسدوه، وأوصلوه إلى حال مناقضة للحال التي كان يمني نفسه ببلوغها، لاعتقاده أن فيها ضمان حريته، وصون كرامته ورزقه، ومستقبل أطفاله، ومنعة وطنه، ووحدة أمته. هذا المواطن يعيش حالا من الاحتقان والغضب، ويرغب في الانتقام من الذين كذبوا عليه وخذلوه وأذلوه. وهو يعتقد أن عودة أموره إلى طريق قويم مستحيل بالسياسة ووسائلها، وأنه لا يملك من أمرها شيئا، على كل حال، بعد أن احتكرتها السلطة ووضعته أمام أحد خيارين: إما الرد على عنفها ضده بعنفه مقابل، أو الموت قهرا وصمتا. بما أن السياسة ترتبط بسوية معينة من الوعي والمعرفة، وتعبر عن نفسها بوسائل سلمية ضعيفة التأثير بطيئة المردود، والعنف يرتبط بانفلات الغرائز والأحقاد، فإنه يتفق أكثر من السياسة مع حال المواطن المقموع وسوية وعيه، فلا عجب أن صار وسيلته إلى الخروج مما هو فيه، وطريقه إلى إخراج بلاده من احتجاز سياسي / اجتماعي ووطني فكك الدول وحول الشعوب إلى قطعان لا حقوق لها، تتكون من فرق ومزق طائفية أو إثنية متعادية، تفتقر إلى رابطة وطنية وثيقة، وتخلو من الشعور بالانتماء إلى جماعة تاريخية موحدة الأهداف والمصير.
2- مع تهميش المجتمعات في أعقاب هزيمة عام 1967 أمام إسرائيل، وضعف النظم العربية الذي كشفته الهزيمة، انفتح الباب أمام الدخول الأمريكي إلى منطقة تمسك إسرائيل بمفاصلها العسكرية ؛ دخول بلغ ذروته في احتلال العراق وما حمله من إذلال إلى أمة كانت تعتقد أنها في الطريق إلى استرداد فلسطين، فإذا بها تخسر العراق وترى أن احتلاله جزء من استراتيجية بعيدة المدى، يتابعها 'الغرب' منذ قرابة ألف عام، هدفها تدمير العالم العربي والاستيلاء عليه وإضعافه والقضاء على قدراته. هذا الحدث المزلزل، الذي وقع بعد أكثر من نصف قرن من ضياع فلسطين، اعتبر فشلا للأمة، وأضيف إلى فشل 'النظام العربي'، فكانت نتيجته شعورا عارما بالخطر استولى على المواطن العربي، الذي أدرك أنه أمام خطر مزدوج: داخلي تمثله نظمه، وخارجي يجسده الاحتلال: الإسرائيلي والامريكي، وأيقن أنه مهدد في وجوده، وأن رده على العنف الكوني الذي يستهدفه من الداخل والخارج في آن معا، يجب أن يكون عنفا كونيا مقابلا، عليه توجيهه ضدهما، في نجاحه اختبار جدارته بحياة لم يعد هناك من سبيل إليها غير الموت، في أعنف صوره وأشكاله وضد جميع الأعداء، داخل وطنه وخارجه.
مارس الاحتلال الامريكي عنفا لا يرحم في العراق، وألقى عليه كميات من متفجرات لا مثيل لها في الحروب الأخرى، وجعل شعبه وأرضه حقل تجارب لأسلحة لم تستخدم من قبل، وقتل مئات آلاف العراقيين، وشرد الملايين منهم، وزرع أرضه بالأسلحة الأشد فتكا، التي بلغ عدد الثقيل منها مليونا وثمانمائة ألف قطعة، فكان من الحتمي أن يقاوم العراقيون العنف ويردوا عليه بعنف مماثل، بلغ من شدته أن جيش أمريكا لم يجد ردا عليه غير توجيهه نحو قنوات داخلية تحوله إلى عنف بين الجماعات العراقية، وخاصة الطائفية منها، فلا عجب أن انفجاره فرض على العراق ضروب إبادة لم توفر أحدا، انخرطت فيها مكوناته جميعها، المسلحة حتى الأنياب والراغبة في القضاء على الآخر، الذي غدا هدف أحقاد شخصية وسياسية وتاريخية، زينت له إبادته، بينما كان العنف الامريكي يتصاعد بدوره، ويحكم سيطرته أكثر فأكثر على استراتيجيات العنف المحلي الأعمى.
3 ـ وزاد طين العنف بلة دور الأصولية، التي جعلها فشل النظم وغزو الخارج ردا رئيسيا على مأساة العرب وبؤسهم، ووفق بين دعوتها إلى التخلي عن السياسة واعتماد العنف وبين مشاعر المواطن العادي، الفقير واليائس، الذي ليس عنده ما يخسره، وليس بحاجة إلى من ينقل إليه وعي أوضاعه من خارجه ـ حسب نظرية كاوتسكي ولينين ـ فوعيه المذهبي / الديني متوطن بعمق في نفسه، ولا حاجة إلى تذكيره به وإلى إقناعه بضرورة طلب الشهادة لمقاومة الظالمين ـ حكام الداخل ـ والكفار ـ المحتلين الأجانب ـ تمتلك الأصولية سطوة حقيقية على الناس، لبساطة دعوتها السياسية، التي تقول بوجود فسطاطين واحد للإيمان والآخر للكفر بينهما معركة لن تنتهي بغير انتصار فناء - أحدهما، وبساطة الحلول التي تقدمها لمآزق العرب والمسلمين، وتقوم على استخدام حد أعظم من العنف ضد من ينتمون إلى الفسطاط الآخر، سواء كانوا نظما داخلية أم محتلين خارجيين.
مع الاحتجاز الداخلي بآفاقه المسدودة أمام المواطن، وبالغزو الخارجي المفهوم كطور في معركة تاريخية بين الإيمان والكفر، وبالحلول الأصولية البسيطة والمؤثرة، يدخل العنف في حقبة جديدة تسقط السياسة تماما من حساباتها، وتجعله وسيلة وحيدة في صراع تستخدم أطرافه إمكانات تقنية ومادية وبشرية لا تقبل المقارنة مع أية إمكانات عرفها أي صراع سابق، أوصلت القتل والإبادة إلى مستويات لا تعرف حدودا، وتتطور من يوم لآخر.
كانت فلسطين نقلة نوعية في الصراع العنيف ضد العرب. مع احتلال العراق، دخل العنف في طور مختلف من وجوه كثيرة، لن تعرف منطقتنا العربية الراحة بعده إذا لم تعمل حكوماتها لكسر حلقته الرئيسية ووضع حد له، بإعادة النظر في علاقاتها مع شعوبها وفي بنيتها الذاتية، وبالاعتراف بأن فشلها هو الذي أوصل العرب إلى قاع الهاوية، وكشفهم، وبأن الخارج الذي دخل على خط العرب الداخلي غازيا ومحتلا، يجب أن يغادر أوطانهم، بالقوة إن تطلب الأمر!
التعليقات