السيد يسين


هناك إجماع بين مؤرخي الفكر الغربي على أن الظاهرة المحورية التي كانت أساس تقدم المجتمعات الصناعية الغربية هي الحداثة. وهناك خلط شائع في الخطاب العربي المعاصر بين الحداثة Modernity والتحديث Modernization. والتحديث هو عملية اجتماعية من شأنها نقل المجتمع التقليدي كالمجتمع الزراعي إلى مجتمع حديث كالمجتمع الصناعي، وذلك باستخدام الآليات والتقنيات التي طبقتها المجتمعات الأوروبية في انتقالها من عصر الزراعة إلى عصر الصناعة.

أما الحداثة فهي مشروع حضاري متكامل متعدد الأبعاد. ذلك أنه ليست هناك حداثة واحدة بل quot;حداثات متعددةquot;! وقد وفق الفيلسوف المغربي الشاب الدكتور محمد الشيخ في كتابه quot;رهانات الحداثةquot; (بيروت، دار الهادي، 2007) -ولعله أهم كتاب صدر عن الحداثة- في التمييز بين quot;الحداثة الاقتصاديةquot;، وأبرز مفكريها هم آدم سميث وديفيد ريكاردو وجون باتست سي وتوماس مالتوس، وquot;الحداثة الاجتماعيةquot; وأبرز ممثليها سان سيمون وأوجست كونت وأميل دوركايم وجورج زيميل، وquot;الحداثة السياسيةquot; وأبرز ممثليها ماكيافيلي وتوماس هوبز وجون لوك وجان جاك روسو وألكيس توكفيل، وquot;الحداثة العلميةquot; ويمثلها علماء بارزون مثل كوبرنيكوس، وجاليليو جاليلي، ويوهان كبلر وإسحاق نيوتن وأخيراً quot;الحداثة الفنيةquot; ومن ممثليها الشاعر الشهير شارل بودلير وستيفان مالارميه ورامبو والروائي مارسيل بروست. وبذلك يمكن القول إن ثمة حداثات متعددة. غير أنها تقوم جميعاً على ثلاثة مفاهيم رئيسية هي العقلانية، والفردية، والحرية. وليس هناك مجال للتفصيل أكثر ولذلك نقنع -لأغراض مقالنا- بالتركيز على مفهوم ومجالات الحرية.

ويلفت quot;محمد الشيخquot; نظرنا إلى ملاحظة مهمة هي العلاقة الوثيقة بين هذه المفاهيم الثلاثة، بحيث إنه لا يمكن النظر إلى كل مفهوم على استقلال عن غيره. ولذا يقول في عبارة جامعة إنه quot;لا حرية بلا ذات مستقلة وبلا تعقل، كما أن الشأن في مبدأ العقلانية ألا إعمال للعقل بلا ارتباط بذات الإنسان العاقل وانشداد إلى الحرية وما كانت الذاتية حمقاء خرقاء، وإنما الذاتية ما شهد لها العقل وأيدتها الحريةquot;.

وتبدو أهمية هذه العبارة في كونها تفند دعاوى أنصار التعصب الديني من الكُتاب والفنانين والمثقفين ورجال الدين الغربيين الذين يشنون على الإسلام والمسلمين حرباً شعواء باسم ممارسة حرية التعبير!

ومما لا شك فيه أن من أهم منجزات الحداثة الغربية مبدأ الحرية هذا، والذي يتضمن حرية التفكير بعد عهود طويلة عانت فيها الإنسانية من القهر السياسي والديني الذي وضع قيوداً عديدة على هذه الحرية، وكذلك حرية التعبير التي ضمنتها دساتير الدول الحديثة، التي أزالت عقبات الرقابة على نشر الأفكار وترويجها والدعوة إليها.

ونحن نعرف من قراءتنا لتاريخ المجتمعات الغربية أن هذه الحريات، ونعني حرية التفكير وحرية التعبير، صودرت عديداً من المرات في عصور الاستبداد الحديث الذي ساد المجتمعات الغربية، وأبرزها على الإطلاق صعود النازية والفاشية والشيوعية، ومصادرة هذه الإيديولوجيات السياسية المتطرفة لكل ضروب الحرية!

وفي مجتمع ديمقراطي كالمجتمع الأميركي أصيبت الحرية في مقتل في عصر السيناتور quot;مكارثيquot; الذي قاد حملة ضارية لتصفية المثقفين والفنانين اليساريين، وقد أطلق على هذا الاتجاه الفاشي quot;المكارثيةquot;، واعتبرت حقبة استثنائية في التاريخ الأميركي أنتجها الخوف المرَضي من انتشار الشيوعية وغزوها لقلاع العالم الرأسمالي!

ولكن بعد نهاية هذه العصور الاستبدادية الحديثة وخصوصاً بعد الحرب العالمية الثانية التي انتهت عام 1945، أصبح مبدأ الحرية مبدأ مقدساً في كل الديمقراطيات المعاصرة. وهكذا أعيد الاعتبار لمبادئ حرية التفكير وحرية التعبير وحرية التنظيم.

إلا أن السؤال الأساسي يبقى مطروحاً: هل حرية التعبير التي يقدمها الغرب ويعتبرها أحد أسس التقدم، بل أحد معايير الحكم على تخلف أو تقدم المجتمعات النامية على وجه الخصوص، تطبق بصورة منهجية وفي كل الحالات بدون تمييز على أساس الجنس أو الدين أو الثقافة، أم أن هناك ازدواجية في المعايير؟

لو استعرضنا ممارسة حرية التعبير في المجتمعات الغربية وخصوصاً في فرنسا، بلد الحريات، وفي ألمانيا التي تحررت من عبء التراث النازي، لوجدنا أن اللوبي الصهيوني في كل من البلدين قد صادر مبدأ حرية التعبير! لأن هذا اللوبي الصهيوني استطاع أن يجعل الحكومة الفرنسية تصدر تشريعاً يعاقب جنائيّاً كل من يشكك في الهولوكست (المحرقة اليهودية) أو يقلل من عدد ضحاياها! وهكذا حوكم باحث فرنسي قدم رسالة دكتوراه حول الموضوع، لأنه فند بعض الأساطير التي حاكها اليهود عن المحرقة، وصدر بحقه حكم جنائي مما يناقض مبدأين أساسيين من مبادئ الحداثة الغربية وهما حرية التعبير والحرية الأكاديمية!

والقيود نفسها على حرية التفكير فيما يتعلق بالتاريخ اليهودي فرضت في ألمانيا وفي عديد من البلاد الأوروبية الأخرى.

فأين هو احترام حرية التفكير وحرية التعبير التي تتشدق بها البلاد الغربية وترفعها سيفاً في مواجهة الدول النامية الشمولية والسلطوية!

والسؤال الثاني: هل حرية التعبير مطلقة، بحيث يجوز لصاحب الخطاب أيّاً كان فكريّاً أو أدبيّاً أو فنيّاً أن يتناول بالتجريح والسخرية المقدسات الدينية للشعوب غير الأوروبية والتي لا تدين بالمسيحية؟

هكذا زعمت الحكومة الدانمركية حين رفضت -باسم حرية التعبير- مساءلة الرسام الدانمركي الذي نشر رسوماً مسيئة للرسول محمد عليه الصلاة والسلام. وقد أيدت هذا الاتجاه عديد من الدول الأوروبية التي أعادت -جهلاً وعناداً وغروراً- نشر هذه الرسوم المسيئة للإسلام والمسلمين.

غير أن التعصب الديني الأعمى أدى بالسيدة quot;ميركلquot; مستشارة ألمانيا إلى أن تقيم حفلاً في برلين لتكرم الرسام الدانمركي تحية له باعتباره من أبطال حرية التعبير!

ما هذا النفاق الغربي المفضوح، وما هذه الجريمة العنصرية التي ارتكبت باسم الشعب الألماني، وهذا الشعب بريء من سياسييه الذين خضعوا بصورة مهينة للابتزاز الصهيوني؟

وإذا أضفنا إلى ذلك حادثة هذا القس الأميركي الذي دعا ليوم يتم فيه حرق القرآن، وما أدى إليه هذا الإعلان من ثورة عارمة وغضب شديد في البلاد الإسلامية، بل في عديد من الدوائر الغربية المستنيرة، سندرك أن دعاوى حرية التعبير التي هي في ذاتها من منجزات الحداثة الغربية، يمكن أن يؤدي سوء التذرع بها إلى فتنة دينية على مستوى العالم، بل إلى ارتكاب جرائم إرهابية ضد الرموز الغربية انتصاراً للدين الإسلامي، ودفاعاً عن القرآن الكريم الذي يؤمن به مئات الملايين من المسلمين في كل أنحاء العالم.

ونخلص إلى التساؤل: في أي عصر نعيش؟

هل نعيش حقاً في عصر حوار الثقافات، والتسامح الذي ينبغي أن يسود بين البشر، وضعاً في الاعتبار أهمية احترام التنوع البشري الخلاق، ومبدأ أنه ليست هناك ثقافة أسمى من ثقافة، ولا دين أفضل من دين، أم أننا على مشارف حرب دينية معلنة لا تزيدها وسائل الإعلام الحديث إلا اشتعالاً؟

وأين ذهبت دعوات حوار الحضارات والتحالف بين الحضارات؟ هل ضاعت في خضم التعصب الديني لجماعات دينية يهودية ومسيحية وإسلامية تنتشر الآن في كل مكان، أم أن النفاق الغربي حول حرية التفكير آن له أن ينتهي بعد أن تكشف الوجه القبيح للحداثة الغربية التي أصبحت مثقلة بأمراضها؟