عبد الاله بلقزيز

يشبه القول بميلاد الأمة العربية في الحقبة الكلاسيكية العربية الإسلامية، على عهد الأمويين والعباسيين، القول بميلاد الأمة الإيطالية في الإمبراطورية الرومانية، أو ميلاد الأمة اليونانية في العهد الإغريقي القديم، أو الأمة الإيرانية في عهد الدولة الساسانية . لا يكفي عهد حضاري كبير لتأسيس فكرة الأمة عليه، ولا تكفي مواريث التاريخ واللغة والثقافة لافتراض وجود استمرارية تاريخية بين أمس واليوم وبناء فرضية الأمة عليها . التمييز هنا ضروري بين المعنى الحديث للأمة ومعناها التقليدي: الذي عرفته مجتمعات عديدة في التاريخ وليس المجتمع العربي الإسلامي حصراً .

الذين صنعوا الدول والإمبراطوريات الكبرى، قبل القرن التاسع عشر، كانوا على مستوى من الوحدة الثقافية واللغوية، وأحياناً الدينية، بمثل ما كان عليه العرب في حقبتهم الكلاسيكية . لكن هؤلاء جميعاً ما شكلوا أمماً بالمعنى القومي الحديث لمفهوم الأمة . ينطبق هذا على الإمبراطورية الرومانية، وهي مَن هي في القِدم والعظمة والنفوذ في العهد الوسيط . وينطبق على الإمبراطورية المجرية، والإمبراطورية النمساوية، والإمبراطورية الروسية القيصرية، والهولندية، والإسبانية الكاثوليكية والبرتغالية (والأخيرتان سيطرتا على بحار العالم واكتسحتا جنوب القارة الأمريكية ووسطها) . وهو يصدق على فرنسا ما قبل الثورة، وبريطانيا القرنين السابع عشر والثامن عشر، وألمانيا ما قبل بسمارك والوحدة . . إلخ . ومع كل هذا التاريخ الإمبراطوري والحضاري العريق الذي صنع الأمجاد الرومانية الكبرى، والنهضة الأوروبية الحديثة، والإصلاح الديني، والثورة الصناعية، والثورة الفرنسية، لم يتحدث أحد من مفكري الغرب عن ميلاد الأمم والقوميات قبل القرن التاسع عشر .

من النافل القول إن مثل هذا الاعتقاد بوجود تاريخي عريق للأمم إنما هو ناجم من خلط فادح في الذهن بين معنى حديث للأمة، وهو ما يتحدث عنه الفكر القومي الحديث منذ غوته وهردر وهيغل، ومعنى تقليدي هو الذي يشار إليه في كتابات القائلين بالأمم العريقة في القدم . إنه عينه الخلط بين مفهوم الدولة الحديث، الذي بلوره الفكر السياسي الحديث (منذ لوك إلى جان ستيوارت ميل مروراً بمونتيسكيو، وجان جاك روسو، وإيمانويل كَنْت، وهيغل، وتو كفيل . . .) وقصد به نظام الدولة القومية الحديثة، ومفهوماً تقليدياً للدولة يشار به إلى الإمبراطوريات والدول التقليدية والدول المسيحية (الثيوقراطية)، حيث الدولة قائمة على الدين، أو على حكم الفرد المطلق . . . إلخ، فكما أن الدولة الثيوقراطية (الكنسية) والدولة السلطانية التقليدية غير الدولة الحديثة (الدولة الوطنية القائمة على التعاقد والدستور وسلطة الشعب المرجعية والفصل بين السلطات)، فكذلك الأمة في معناها التقليدي غير الأمة في معناها القومي الحديث .

روابط الأمة، في معناها التقليدي، ثقافية ودينية في المقام الأول . وهي، في كثير من الأحيان، ما كانت لتخلو من أوهام الأصول الدموية الواحدة . قامت أمم في أوروبا العصر الوسيط على هذا المقتضى، غلبت الإمبراطورية الرومانية هويتها الدينية (المسيحية) في مراحل من تاريخها أكثر من أية رابطة أخرى، وتمايز الجرمان عن اللاتين باللغة والثقافة والأصل الدموي . ولم تكن الحدود متطابقة بين الأمم والدول، فكان يمكن لدول عديدة أن تنشأ داخل الأمة الواحدة (منظوراً إليها ضمن معناها التقليدي هذا)، مثلما كان يمكن لدولة إمبراطورية أن تضم تحت سلطانها أمماً عديدة . لم تكن صورة الأمة واضحة في خضم هذا الخليط من عوامل التكوين ومن علاقة الأمة بالدولة في تلك الحقبة الطويلة من التاريخ .

شبيه بذلك ما كان في تاريخنا العربي الإسلامي، حمل العرب دعوة الإسلام إلى الآفاق واختلطوا بغيرهم من شعوب البلدان المفتوحة، في الوقت عينه الذي كان مفهوم الأمة القرآني يعيِّن تلك الرابطة التي أقامها الدين بين مجموعات أقوامية ولسانية مختلفة . أن يكون أكثر الشعوب تعرَّب بعد الإسلام، لا يكفي للقول إن الأمة الإسلامية وهي عين معنى الأمة القرآني ليست شيئاً آخر سوى الأمة العربية . على النحو نفسه لا يكفي القول إن العرب نمت لديهم نزعة الشعور باستقلال الشخصية في لحظة من العهد العباسي في مواجهة الشعوبية للقول إن بذور أمة عربية بذرت منذ ذلك العهد، فلا التطابق ممكن بين ldquo;الأمة الروحيةrdquo; والأمة الاجتماعية، ولا نمو الشعور بالاعتصاب للجنس قرينة على ميلاد أمة، ذلك أن الأمة لا تنشأ بروابط الدين ولا بروابط العرق إلا إن قصد بها الأمة في الإدراك التقليدي، وهي غير الأمة في مفهومها الحديث .

تقترن الأمة، بمفهومها الحديث، بالدولة القومية . لم يكن صحيحاً أن الأمم هي من صنع الدول القومية، وإنما كان العكس هو ما حصل: تشكلت الدول الحديثة على مراحل متدرجة من التوحيد الجغرافي والاجتماعي والسياسي (وهو الغالب على تجارب التوحيد القومي)، أو من الانفصال القومي (داخل إطار الإمبراطوريات التقليدية الكبرى)، وكانت الدول تصهر جماعاتها المجزأة في ما مضى في مصهر قومي وحدوي لتنشأ القوميات الحديثة من عملية الصهر تلك . وفرت العوامل المساعدة كوحدة اللسان والثقافة والاتصال الجغرافي والتاريخي المشترك . . فرصاً أفضل لعملية التوحيد القومي تلك، كما في فرنسا وألمانيا وإيطاليا، لكنها حين غابت أو انعدمت لم تمنع الدولة وحركات التوحيد القومي من تحقيق أهدافها: على نحو ما حصل في الولايات المتحدة وسويسرا وبلجيكا وكندا . . إلخ .

يأخذنا التحليل السابق إلى استنتاج رئيس: ليست الفكرة القومية العربية في حاجة إلى البحث لنفسها عن شرعية في التاريخ الماضي، وإنما شرعيتها من الحاضر وتحديات المستقبل، ففي التجزئة، والتأخر، والتبعية، وفقدان الأمن العربي، ومخاطر المشروع الصهيوني . .، ما يوفر للفكرة القومية ولفكرة الوحدة العربية شرعيتهما .