راغدة درغام


مفهوم بناء الدولة أو تدميرها ما زال مبهماً لدى الكثيرين في المنطقة العربية، وهذا ليس سهواً بل عمداً. لذلك، يتجاهل كثيرون أهمية ما تقوم به السلطة الفلسطينية من ناحية تعزيز بناء مؤسسات الدولة الفلسطينية، بالموازاة مع المفاوضات السياسية، كاستراتيجية لإنهاء الاحتلال الإسرائيلي. الأسرة الدولية على مستوى laquo;اللجنة الرباعيةraquo; التي تضم الولايات المتحدة وروسيا والأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي، وكذلك البنك الدولي، قطعت شوطاً له دلالة كبيرة هذا الأسبوع. حدث ذلك عندما تضمن بيان laquo;الرباعيةraquo; ربطاً بين الإعداد لإنهاء الاحتلال عبر بناء المؤسسات من جهة وبين المفاوضات السياسية لإنهاء الاحتلال من جهة أخرى. هذا التطور المهم كاد يمر مرور الكرام على الأكثرية من السياسيين والإعلاميين التي انهمكت في إيلاء الأهمية لما بدا انه إعداد لتدمير الدولة اللبنانية عبر تجاوزات لمؤسساتها وذلك عندما تحرك الجهاز الأمني لـ laquo;حزب اللهraquo; في مطار رفيق الحريري الدولي في بيروت ليفتح صالون الشرف لرجل شتم وتمادى ضد مؤسسات الدولة بما فيها جهازها القضائي. ما حدث كان عبارة عن محاولة تدمير جهازين أساسيين من مؤسسات الدولة هما المؤسسة الأمنية التي لها فقط حق التصرف في مطار بيروت الدولي، والمؤسسة القضائية. استدراك هذا التمادي، والاعتزام على التهدئة، والعمل المشترك للحؤول دون تحوّل هذه التجاوزات الى معركة طائفية أو مذهبية laquo;اشترىraquo; للبلد استقراراً موقتاً. انما هذا بالتأكيد استقرار موقت ما لم تُتخذ كل التدابير لحماية مؤسسات الدولة من المعارك السياسية ولمنع تدمير الدولة من خلال تحطيم أو تحجيم المؤسسات ذات المسؤولية الإقليمية، وبالذات العربية، في مسألتي بناء الدولة الفلسطينية ومنع تدمير الدولة اللبنانية. وهذه مسؤولية كبرى يجب عدم التقاعس فيها ليس فقط لأن الضمير العربي يجب أن يستفيق نحو المسألتين، بل لأن إساءة قراءة إفرازات مثل هذا التقاعس تشكل خطراً على لبنان وفلسطين وعلى المنطقة العربية بأسرها.

فلسطينياً، حان الوقت لوضع حد لثقافة التذمر والتحامل على حساب الفلسطينيين تحت الاحتلال. الرئيس الفلسطيني محمود عباس قال للقادة العرب ان المقاومة المسلحة لإنهاء الاحتلال تتطلب قراراً عربياً بالمقاومة الجماعية وليس بالمقاومة الانتقائية. فإذا كان القرار العربي الاستراتيجي هو الحرب أو المقاومة المسلحة من جميع الجبهات المتاخمة لإسرائيل، بما فيها الجبهة السورية، فليُعلن هذا التغيير الذي ينافي الموقف القائل ان المفاوضات هي الخيار الاستراتيجي. أما ان يكون المطلوب هو إطالة الاحتلال الإسرائيلي كي تبقى المقاومة شعاراً لغايات غير خلاص الفلسطينيين من الاحتلال، فإن في ذلك تحاملاً لا يطاق يدفع ثمنه شعب كان تكراراً ضحية المزايدات.

ما تقوم به السلطة الفلسطينية اليوم هو عملية سياسية تقارنها عملية مؤسساتية هدفها إخراج قرار إنهاء الاحتلال من الملكية الإسرائيلية. وقد حدّد رئيس الحكومة الفلسطينية، سلام فياض سنتين كإطار زمني لإتمام إعداد مؤسسات الدولة الفلسطينية. مضت سنة منذ أعلن الإطار الزمني هذا، وما زال أمام هذا التعهد سنة أخرى. ومنذ شهر تقريباً أطلق سلام فياض برنامجاً موسعاً حول الأولويات لما تبقى من برنامج استكمال بناء المؤسسات أسماه laquo;موعد مع الحريةraquo;.

استخدم فيّاض تعبيراً باللغة الإنكليزية يقترن عامة بالقفزات الأخيرة للخيول في سباق الخيل homestretch to freedom وذلك إبرازاً لأهمية الزخم الضروري للسنة الثانية حتى laquo;الموعد مع الحريةraquo; للفلسطينيين. هذا الزخم يتطلب بالضرورة مساهمات عربية جدية لإنجاز البنية التحتية للدولة الفلسطينية المتمثلة في المؤسسات.

البنك الدولي أعطى شهادة نادرة لعمل عربي مؤسساتي عندما جاء في تقريره حول توطيد بناء الدولة الفلسطينية laquo;إذا استمرت السلطة الفلسطينية في أدائها الحالي في بناء المؤسسات وتقديم الخدمات، ستكون في موقع جيّد يمكنها من إقامة الدولة في أي وقت في المستقبل القريبraquo;.

بيان laquo;اللجنة الرباعيةraquo; الذي صدر في أعقاب اجتماعها على مستوى الوزراء والأمين العام بان كي مون في نيويورك هذا الأسبوع أخذ علماً بهذه الشهادة وتعمد ان laquo;يدعو الدول العربيةraquo; الى توفير الدعم الملموس حالاً للسلطة الفلسطينية.

وزير خارجية النروج، جوناس غارستور، تحرك لدى وزراء الخارجية العرب ثنائياً وكذلك جماعياً في لقاء ضم وزراء عرباً ووزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون، ليحض على laquo;تنفيذ التعهداتraquo; السابقة بالدعم والتي بقيت كلاماً على الشفاه أو حبراً على ورق. الدول المانحة للسلطة الفلسطينية التي تشارك فعلياً وعملياً في بناء مؤسسات الدولة الفلسطينية المستقلة هي أوروبية في معظمها، الى جانب الولايات المتحدة، وذلك في غياب المساهمات العربية المساوية لها.

بيان laquo;اللجنة الرباعيةraquo; حضّ إسرائيل على تمديد laquo;تجميدraquo; الاستيطان الذي ينتهي مفعوله الأسبوع المقبل، وأكد الالتزام الكامل ببياناته السابقة التي تنص على أن laquo;المفاوضات يجب أن تؤدي الى اتفاقية تنهي الاحتلال الذي بدأ عام 1967 وينتج عنها قيام دولة فلسطينية مستقلة وديموقراطية ومتواصلة وقادرة على العيش بسلام وأمن جنباً الى جنب مع إسرائيل وجيرانها الآخرينraquo;.

لأول مرة، ربطت laquo;اللجنة الرباعيةraquo; في بيانها بين المفاوضات السياسية وبين الإعداد لإنهاء الاحتلال. المفاوضات الفلسطينية ndash; الإسرائيلية المباشرة التي تم استئنافها أخيراً بمشاركة أميركية وُضِعَت بدورها في إطار زمني من سنة واحدة.

بذلك، هناك قاسم مشرك هو عامل الوقت الذي يربط بين مساري استكمال الإعداد والأداء لإقامة دولة فلسطين، مؤسساتياً وتفاوضياً، في غضون سنة.

الجديد هو ان إنهاء الاحتلال لم يعد يُترك لإسرائيل ndash; كما جاء في اتفاقيات أوسلو ndash; التي أثبتت انها ليست في عجلة من أمرها لإنهائه. الجديد هو في اتخاذ الفلسطينيين زمام المبادرة عبر التقدم بمقترحات وأطر زمنية وإجراءات بناء الدولة من دون ان تكون مرهونة بموافقة إسرائيلية مسبقة عليها. الجديد هو ان المجتمع الدولي هو الذي سيصبح مسؤولاً عن إنهاء الاحتلال الإسرائيلي، وليس إسرائيل.

سلام فياض يقول ان laquo;الأداء والإعداد هما مسؤولية ثنائيةraquo; وان laquo;مسؤولية فلسطين الأساسية هي استكمال الاستعداد لإقامة دولة فلسطين من خلال استكمال بناء المؤسساتraquo;. أي laquo;ان نرقى بالأداء بتميّز الى أن تصبح دولة فلسطين غير قابلة للتجاهل. هذه هي المسؤولية الفلسطينيةraquo;. بكلام آخر، laquo;ضرورة التميّز بالأداء على رغم أنف الاحتلال، الى أن يصبح الاحتلال المشكلة الوحيدة القائمةraquo; وهذا ما أقرّ به البنك الدولي عندما مدح إنجازات سلام فياض وأكد أن إتمام جهوزية دولة فلسطين بات أمراً وشيكاً.

المتذمرون لا ينظرون الى هذه الإنجازات ويفضلون ثقافة الإحباط المتواصل والتوقعات بفشل المفاوضات السياسية التي يقودها الرئيس محمود عباس. انهم يدفنون الدولة التي يعمل محمود عباس وسلام فياض معاً على بنائها. إنما ما تقوم به السلطة الفلسطينية من خلال هذين الرجلين هو تمكين الشعب الفلسطيني تحت الاحتلال من الشعور بالثقة بالنفس وبان أداء هذا الشعب هو الذي يؤدي الى إنهاء الاحتلال، بقرار فلسطيني وبإطار زمني فلسطيني وليس برهن مزاج إسرائيلي.

ما يحدث في لبنان يتضارب مع ما يحدث في فلسطين من ناحية مَن الذي يسعى لبناء دولة ومَن الذي يسعى وراء تدمير دولة. كما ان بناء الدولة الفلسطينية يتطلب مساهمة عربية فاعلة وفعلية، ان الحؤول دون تدمير الدولة اللبنانية يتطلب أدواراً عربية واعية لإفرازات التدمير.

بعض الدول العربية يعتقد أن مساهمته في استقرار لبنان تتطلب إحياء وتعزيز الدور السوري في الشأن اللبناني الداخلي إبعاداً وإضعافاً للدول الإيراني المباشر أو عبر laquo;حزب اللهraquo;. هذه المعادلة فيها خلل مخيف إذ انها تعطّل المسيرة اللبنانية نحو الخروج من الوصاية من جهة وتنذر بفتنة داخلية لها طابع مذهبي، من جهة أخرى. ما يجدر بهذه الدول الصديقة أن تقوم به هو دعم قدرات الدولة اللبنانية على تعزيز مؤسساتها. أي خيار آخر يجعلها تبدو طرفاً في استخدام لبنان ساحة لحروب بالوكالة. وهذا ليس في مصلحة هذه الدول سيما ان إيران تبدو مصرّة على اختراق مهم ومخيف في دول خليجية.

البعض الآخر من الدول العربية يبدو جاهزاً لاختزال لبنان الدولة الى رجل أو الى حادثة، وهذا مؤسف. مؤسف لأنه لو اتخذت أية دولة عربية موقفاً مماثلاً تجاه دولة عربية اخرى لاعتبر ذلك عملاً تخريبياً ضد تلك الدولة.

مهم جداً للدول العربية التنبه لمسؤولية المساهمة في بناء الدولة والحؤول دون تدميرها. فلا أحد يجب أن يتمنى أن يصبح لبنان صومالاً آخر أو أن يتحول اليمن الى دولة سائبة بلا مؤسسات كالصومال. ولا أحد يجب أن يتجاهل أهمية إنجاز الإعداد لمؤسسات الدولة الفلسطينية، بالموازاة مع المفاوضات، لإنهاء الاحتلال على رغم أنف إسرائيل.