أمير طاهري
هل العلمانية هي السبب الأساسي للمشكلات الحالية التي يعانيها الغرب؟
كان هذا السؤال جزءا من النقاش السياسي في بريطانيا على مدار الأسبوعين الماضيين. أطلق هذا النقاش البابا بنديكت السادس عشر، بابا الفاتيكان، في بداية زيارته الرسمية التاريخية إلى المملكة المتحدة. ودعا البابا الحضور إلى العودة إلى القيم الدينية، مرسلا بذلك رسالة ضمنية مفادها أن العلمانية هي المسؤولة عما اعتبره المشكلات الاجتماعية والاقتصادية والأخلاقية التي يعانيها المجتمع الغربي.
ولم يستطع بعض من ينتقدون البابا مقاومة المحاولة الرخيصة لتذكير الجميع بأن الفضيحة الجنسية التي هزت الكنيسة الكاثوليكية لمدة أعوام لم يكن سببها العلمانية.
وتستحق القضية التي أثارها البابا معالجة أكثر جدية، فإلى جانب الكثيرين، يرتكب البابا خمسة أخطاء بشأن العلمانية.
الخطأ الأول هو أنه تعرض للتضليل من هجاء كلمة العلمانية، حيث إن المقطع الأخير من الكلمة يشير على نحو خاطئ إلى أننا نتعامل مع آيديولوجية مثل الاشتراكية والشيوعية والقومية. ومع ذلك فالعلمانية ليست آيديولوجية، بمعنى أنها لا تعرض وجهة نظر كلية للوجود البشري، ولا تتبنى موقفا بشأن قضايا سياسية واقتصادية وأخلاقية معينة.
والخطأ الثاني هو النظر إلى العلمانية على أنها إلحاد، حيث إن هذين المصطلحين بعيدان تماما عن بعضهما البعض.
يعد الإلحاد آيديولوجية قائمة على رفض أي تفسير ديني للوجود. بيد أن العلمانية تتبنى موقفا محايدا إزاء جميع التفسيرات الدينية القديمة والحالية والمستقبلية. وفي الغالب يمتلك الملحدون المعابد الخاصة بهم، ويعبدون أنبياءهم، وينشرون العقائد الخاصة بهم. لكن العلمانية ليس لها أي تنظيم ولا أنبياء، ولا تروج لأي عقيدة.
والخطأ الثالث هو أن العلمانية تنكر الحاجة إلى قواعد أخلاقية. لا توجد أية بيانات تجريبية لتدعيم هذا الادعاء.
بمقدور الفرد استذكار أسماء مئات المؤيدين للعلمانية في التاريخ، والذين كانوا معروفين وحظوا بالتقدير لاستقامتهم الأخلاقية المثالية.
والخطأ الرابع هو أن العلمانية تريد أن تبعد الدين عن السياسة. وهذه التهمة غير صحيحة أيضا.
تعرف العلمانية أنه لا أحد يستطيع كبح، ناهيك عن طمس، المعتقدات الدينية لأي فرد. كما تعرف أن المعتقدات الدينية للفرد بكل تأكيد تؤثر على خياراته السياسية، أو في بعض الحالات تملي عليه خياراته السياسية. وفي الدول التي تجري انتخابات، لا يعرف أحد ما يفكر فيه الفرد عندما يضع ورقة الاقتراع داخل صندوق الاقتراع.
وإجبار الناس على اتخاذ خيارات سياسية ضد معتقداتهم الدينية يعد إحدى صور الاستبداد. بيد أن العلمانية لا تعد بأي حال من الأحوال وصفة للحكم الاستبدادي.
والخطأ الخامس من المحتمل أن يكون الخطأ الأكثر خطورة. إنه الإدعاء بأن العلمانية والدين متعارضان. وبمعنى آخر، إذا كنت علمانيا فإنك لا تستطيع أن تحمل معتقدات دينية. ومع ذلك، حتى في الحياة اليومية، يلتقي الفرد بالكثيرين ممن يؤيدون العلمانية في حين يحملون معتقدات دينية قوية.
ولا تعد العلمانية بدعة اخترعها الآباء الروحيون للثورة الفرنسية الملحدة. وكان لهؤلاء الآباء الروحيين الدين الزائف الخاص بهم، والذي يشمل مذهبا ومعتقدات وقديسين وطقوسا. وبحد وصفهم، كانوا متعصبين في معتقداتهم مثل الكهنة الذين كانوا يذبحونهم بصورة يومية في قلب باريس.
حسنا، إذا لم تكن العلمانية أيا مما سبق، فما هي إذن ولماذا يجب أن نفكر فيها؟
والإجابة عن هذا السؤال هي أن العلمانية، على الرغم من المقطع الأخير المضلل بها، ليست آيديولوجية، لكنها وسيلة لتنظيم الفضاء العام.
ووفقا لهذه الوسيلة، بما أن الفضاء العام يخص الجميع، فلا يمكن تنظيمه على أساس المعتقدات الدينية لبعض، أو حتى أغلبية، السكان.
وبعبارة أخرى، يوجد في العلمانية مساحة لكل من الدين والعقل. وفي حين أن الدين قائم على المعتقدات، أو كما قال الشاعر الفارسي رومي laquo;رؤية اللامرئيraquo;، فإن العقل يتعامل مع اللامرئي. ولا تمنع العلمانية أي أحد من رؤية اللامرئي بالطريقة التي يحبها. وعلى النقيض من ذلك، تقدم العلمانية فضاء وحماية لجميع طرق رؤية اللامرئي. وغالبا ما يعرف الناس العلمانية على أنها الفصل بين الكنيسة والدولة. أما وقد جرى تحجيم جميع الكنائس، فإن هذا التعريف قد لا يكون كافيا.
والتعريف الأفضل هو الملكية المشتركة للفضاء العام. ويعني ذلك اتخاذ قرارات سياسية وفقا للضرورات السياسية، لا الدينية، وبما يخدم مصالح الأغلبية، مع المحافظة على حقوق الأقليات. وبالطبع، لا يعني ذلك أن الجماعات الدينية لا تستطيع التعبير عن وجهات النظر الخاصة بها بشأن جميع القضايا أو إطلاق الحملات للتأثير على القرارات السياسية.
ولماذا نفكر في العلمانية؟
والإجابة عن هذا السؤال هي أنه ينبغي تنظيم الفضاء السياسي العالمي وفقا لمصالح جميع الدول والثقافات، والاعتراف بالاختلافات بينها. وبعبارة أخرى، ينبغي أن يكون هذا الفضاء محايدا إزاء جميع المعتقدات، على الرغم من احترامه لها. وسيكون البديل حروبا دينية، يكون فيها الإلحاد دينا بين الكثير من الأديان.
وكانت العلمانية هي ما جعل زيارة البابا إلى المملكة المتحدة ممكنة. فعلى مدار 800 عام، نظرت إنجلترا، بعدما أنشأت الكنيسة الخاصة بها، إلى الكنيسة الكاثوليكية على أنها عدو ديني. وجرى ذبح مئات الآلاف من الكاثوليك بسبب ديانتهم. وجرى نقل أكثر من ذلك إلى مستعمرات بعيدة. وحتى فترة ليست بالبعيدة، لم يكن مسموحا بناء الكنائس الكاثوليكية، أو ترميم الكنائس القائمة.
وحتى عقد ماض، كان يُنظر إلى فكرة قيام بابا الفاتيكان بزيارة رسمية إلى المملكة المتحدة على أنها نكتة سخيفة. وقبل عقدين من الزمان، زار البابا يوحنا بولس الثاني المملكة المتحدة باعتباره سائحا، لأن البروتوكول والسياسة البريطانية، التي أملتها قرون من العداء تجاه روما، كانا يحظران أي زيارة رسمية من هذا القبيل.
والعلمانية التي ينتقدها البابا بنديكت غيرت كل ذلك. كان بنديكت قادرا على أن يكون أول بابا يكسر هذا المحظور نظرا للاعتراف بأن الفضاء العام في المملكة المتحدة لم يعد منظما وفقا للمعتقدات الحصرية ولا مصالح كنيسة إنجلترا، التي يعد العاهل البريطاني هو الحاكم بها.
كما أن العلمانية هي أيضا التي مكنت البابا بنديكت من انتقاد العلمانية علنا، وغيرها من سمات الحياة البريطانية بحرية كاملة. وفي حين أن البابا يدعو إلى تقييد بعض الحريات التي يتمتع بها آخرون باسم العقيدة الدينية، فإنه يستمتع بصورة كاملة بحرية الاعتقاد والممارسة والنشر، وذلك بفضل العلمانية.
التعليقات