محمد السمّاك

في عام 1022 أقرّ البابا بنديكتوس الثامن قانوناً كنسياً يفرض على القساوسة عدم الزواج والتزام العزوبية وذلك من أجل التفرّغ للخدمة الكنسية.
أما الآن وبعد ألف واثني عشر عاماً، يواجه خلَفه البابا بنديكتوس السادس عشر طلبات ملحّة من خارج الكنيسة لإعادة النظر جذرياً في ذلك القانون، والسماح للقساوسة بالزواج. فهل يلغي بنديكتوس 2010 قانون بنديكتوس 1022؟
يبرّر أصحاب هذه الدعوة إلحاحهم بأنه قبل تاريخ 1022 م. كان القساوسة يتزوجون. وان قانون منع الزواج هو قانون كنسي وليس نصّاً إنجيلياً. ثم ان ظروف الحياة تغيّرت، فالخدمة الكنسية لا تتعارض بالضرورة مع الزواج، بدليل أن الكنائس الانجيلية التي تبيح الزواج لقساوستها تنشط وتزدهر وتتوسع في أنحاء مختلفة من العالم. وفي دراسة أجريت في جنوبي ألمانيا مؤخراً، قال 87 بالمئة من الذين جرى استفتاؤهم من المسيحيين الكاثوليك، ان عزوبية الكاهن لم تعد أمراً ضرورياً. وكان الكاردينال كريستوفر شونبور، كاردينال فيننا النمسا وهو واحد من كبار الكرادلة الواسعي النفوذ والاحترام، قد بادر الى طرح موضوع زواج الكهنة، الا انه تراجع بسرعة عن هذا الطرح بعد أن آنس عدم قبوله من البابا نفسه وكذلك من مجلس العقيدة.
وكان قد فتح أبواب البحث في هذا الموضوع الشائك تواتر الأخبار عن قيام عدد من القساوسة بالاعتداء الجنسي على الأطفال، وهي تهمة لا تنحصر بالكنيسة عامة ولا بالكنيسة الكاثوليكية خاصة، ولكنها تشمل مؤسسات دينية ومدنية (لا دينية) عديدة اخرى، منها مؤسسات مدرسية أو اجتماعية أو خيرية، حيث يكون روادها حصراً من الذكور ومن الأطفال. وقد يطالب بعض ضحايا الاعتداءات بعد أن بلغوا السن القانونية بالتعويض. ففي الولايات المتحدة وحدها دفعت الكنيسة الكاثوليكية مبلغ ملياري دولار تعويضات لمثل هؤلاء الضحايا الذين تعرضوا للاعتداء منذ عام 1992. ولقد اضطرت الكنيسة لبيع كثير من أملاكها حتى تتمكن من توفير هذا المبلغ الكبير.
وفوق أعباء هذه التعويضات المالية المرهقة، اضطر البابا الى تقديم اعتذار للضحايا.. وهو ما فعله مرة ثانية عندما اكتشفت عملية مماثلة في ايرلندة.. وقبلها في النمسا واستراليا وكندا.. والآن في ألمانيا.
ولأنه لا التعويضات المالية، ولا الاعتذارات المعنوية تكفي لمعالجة المشكلة، كان الطلب بضرورة إعادة النظر في قانون منع الزواج المفروض على الكهنة والقساوسة. فهل يلغي بنديكتوس ما اقره بنديكتوس ؟!.
لا بد من الإقرار بأمر أساسي وهو ان المجتمعات الغربية في الولايات المتحدة وكندا واستراليا وأوروبا لم تكن وحدها التي شهدت حوادث اعتداء على الأطفال، إلا أن هذه المجتمعات الغربية تتمتع بثقافة الاعتراف العلني بالخطأ.. وتتحمل تبعات هذا الخطأ. وهي لا تلقي بآثامها تحت مقاعد المعابد، كما قد تفعل مؤسسات اخرى. ما يعني ان عدم تقدم ضحايا للإدعاء بتعرضهم للاعتداء، لا يعني انه لم تقع حوادث اعتداء في مدارس ومؤسسات تعنى بالأطفال أو تابعة لهيئات ومنظمات دينية غير مسيحية أو مدنية خاصة او عامة في الكثير من الدول في آسيا وافريقيا.
ففي ألمانيا وحدها بلغ عدد حالات الاعتداء على الأطفال التي اعترف أصحابها بها حتى الآن 250 حالة. وهناك 14 كاهناً يخضعون الآن للتحقيق. اما في هولندا فقد سجلت 350 حالة. وفي البرازيل أحيل ثلاثة قساوسة الى المحكمة بتهمة تسجيل فيلم اباحي مع أحد الأولاد.
لم ينكر الفاتيكان وقوع هذه الحوادث وإن كان عددها محدوداً جداً بالنسبة لعدد القساوسة والكهنة الذين يعملون في خدمة الكنيسة ومؤسساتها في مختلف أنحاء العالم والذين يقدر عددهم بحوالي 400 ألف كاهن من مختلف المستويات الكهنوتية ومن مختلف الجنسيات والثقافات. غير ان الفاتيكان يشعر أنه يتعرض الى حملة تشهير واسعة النطاق على خلفية هذه الأحداث التي تشكل ظاهرة سلبية في العديد من المجتمعات وفي معظم المؤسسات الأهلية الأخرى. وهنا بيت القصيد. فإسرائيل تحاول الضغط على البابا بنديكتوس السادس عشر لوقف الاجراءات التي يتخذها الفاتيكان من اجل تطويب البابا بيوس، الذي اعتلى السدة البابوية خلال الحرب العالمية الثانية، قديساً. وحجة اسرائيل في ذلك ان البابا تعمّد عدم حماية اليهود عندما كانوا يتعرضون الى الاجتياح النازي الذي أودى بحياة مئات الآلاف منهم.
غير ان البابا بنديكتوس الذي يرفض التهمة من حيث الأساس، أصرّ على المضي قدماً في اجراءات التطويب. لذلك تعتبر اسرائيل ومن ورائها الحركة الصهيونية العالمية التي تسيطر على قطاع واسع من الإعلام في العالم، ان تطويب البابا بيوس هو بمثابة مكافأة له على عدم حماية اليهود من المذابح النازية.
استخدم الإعلام الصهيوني أو الاعلام العالمي المتصهين - أداتين للتشهير بالبابا بنديكتوس السادس عشر. كانت الاداة الأولى عبارة عن ترويج نشر صورة له وهو بالملابس النازية عندما كان شاباً يافعاً وفرض عليه، كسائر اولاد جيله، الانضمام الى حركة الشبيبة النازية. ولكن عملية الابتزاز تلك لم تؤدِ ثمارها. ذلك ان البابا دخل المدرسة اللاهوتية فور ذلك بحيث انه لم يتسنّ له القيام بأي نشاط كشفي في الاطار النازي.
اما الاداة الثانية، فهي اتهامه بأنه عندما كان مطراناً على أبرشية ميونيخ في جنوب ألمانيا في عام 2001 كان على علم بأن احد الكهنة اعتدى جنسياً على ولدين ( 14 و 10 سنوات) وانه كان يُعرف في حينه باسمه الكاردينال جوزف ريتسنغر، عمد الى نقله الى موقع آخر بدلاً من ادانته وتحويله الى القضاء. وهي تهمة ثبت بطلانها، اذ ان الكاردينال الذي اصبح - البابا لم يكن على علم بحالة ذلك الكاهن كما أكدت الوثائق الرسمية في المطرانية.
لا شك في ان ثمة أساساً لإثارة قضية الجرائم الجنسية ضد الأطفال. فالفاتيكان ذاته لم ينكرها ولكنه استنكرها؛ وهو لم يغطّ على مرتكبيها ولكنه أدانهم وحملهم على الاعتراف العلني. غير ان الفاتيكان يتعرّض للضغط الآن من أجل عدم الاكتفاء باعتبار الاعتداء الجنسي خطيئة، بل جريمة. فالخطيئة تعالج داخل الكنيسة، اما الجريمة فتعالج أمام القضاء المدني. العلاج الكنسي لاهوتي تأديبي يتطلب اعادة تأهيل المرتكب ؛ أما العلاج القضائي فهو علاج عقابي تشهيري. وشتان بين الأمرين.
يحرص الفاتيكان، بصفته المرجع الأول للمسيحية في العالم (1.5 مليار كاثوليكي) ان يحافظ على صدقية الكنيسة واحترامها حتى يتمكن من مواصلة اداء رسالته الروحية، أما أعداؤه فيحاولون أن يوظفوا سقطات بعض رجاله أداة للطعن به وبما يمثل.
أمام تصاعد هذه الحملة خاصة في أجهزة الاعلام الغربية يجد الفاتيكان نفسه مضطراً للإجابة على سؤالين أساسيين :
يتعلق السؤال الأول بموقف البابا من مبدأ رفع الحظر عن زواج الكهنة. فالموافقة تعني تغييراً جذرياً في بنية المؤسسة الدينية الكاثوليكية.. على النحو الذي تعرفه الكنائس الانجيلية. ولا يبدو ان هذا الامر مقبول من البابا ولا حتى من مجلس الكرادلة، المؤتمن على العقيدة الكاثوليكية.. ولذلك فإن اعادة النظر في القانون الكنسي المتعلق بعدم زواج الكهنة لن يطرح على البحث في المستقبل المنظور.
أما السؤال الثاني فيتعلق بما اذا كان البابا يوافق على اعتبار عملية الاعتداء الجنسي على الأطفال، جريمة وليس مجرد خطيئة فقط. بمعنى أن الجريمة تستدعي تسليم المرتكب الى القضاء الجزائي، وهو أمر لا سابق له في تاريخ الكنيسة، إذ لم يمثل احد منهم بلباس كهنوتي أمام قضاء جزائي.. ولا يبدو ان هذا الأمر سوف يتغير في المستقبل المنظور ايضاً.
فمع تصاعد الحملة الاعلامية المبرمجة على البابا وعلى الفاتيكان، فإن البابا بنديكتوس السادس عشر يتعامل مع هذه الحملة بثقة أكبر بالنفس وبالكنيسة وقوانينها.. وتبدو المجامع الكنسية الكاثوليكية في العالم أكثر تماسكاً مما تحاول أن توحي به هذه الحملة، وأشد تمسكاً بالثوابت الكنسية.