مالك التريكي

رغم أن نصوص الأستاذ محمد أركون تتسم بدرجة عالية من الكثافة التجريدية والاقتضاء المنهجي، فإنها تتميز بأسلوب فرنسي صقيل كثيرا ما تلتمع فيه مقاطع من بهيّ الومض الجمالي. إلا أن الهم الفكري الملح، المنصب على تحقيق مشروع كتابة تاريخ جديد للفكر الإسلامي من منطلق نقد العقل الديني، قد جعل كتابات الأستاذ أركون كتابات 'لا ـ ذاتية' تكاد لا تظفر فيها بما يشي عن أي من تفاصيل سيرته أو ملامح شخصيته.
ولهذا فقد سعدت عندما أهداني في مطلع 2006 كتابه الذي كان قد صدر للتو بالفرنسية (التي يؤلف بها جميع مقالاته قبل أن تترجم إلى العربية أو الإنكليزية) بعنوان 'النزعة الإنسانية والإسلام'. وكان مصدر سعادتي أن هذا الكتاب، الذي اعتنى بمخاطبة الجمهور الواسع في شؤون مفهومية وتاريخية كان البحث فيها مقتصرا على المتخصصين، يحتوي على لمع من سيرة محمد أركون الفكرية.
وتتبين أهمية هذه اللمع في ضوء ما كنا قد ذكرناه هنا، بمناسبة وفاة عبد الوهاب المسيري قبل أكثر من عامين، عن افتقار الثقافة العربية المعاصرة إلى تقاليد 'السيرة الذاتية الفكرية' رغم أنها جنس أدبي شائع في الثقافات الأخرى.
التقيت الأستاذ أركون أول مرة عام 1992 في ندوة في بريطانيا كان من المشاركين العرب فيها فؤاد زكريا، ومراد وهبة، وحسين أحمد أمين وعزيز العظمة. في حفل الاستقبال قدمته إلى مدير إذاعات بي بي سي العالمية جون توسا الذي كان برفقة زوجته. علمان كل في مجاله لكن لم يسمع أحدهما بالآخر. كان جون توسا مذيعا تلفزيونيا شهيرا قبل ذلك. وهو الآن مدير مركز باربيكان للفنون في لندن.
من المفاجآت أن الأستاذ أركون كان يتحدث بإنكليزية طليقة غير معهودة، بل شبه منعدمة، لدى أبناء جيله من مثقفي المغرب العربي. جمعتني مائدة العشاء مع أركون والأستاذ الراحل ريمي ليفو الذي كان من أبرز الباحثين الفرنسيين المتخصصين في الشؤون العربية. تطرق بنا الحديث إلى الصحافة فأبديت إعجابي بهوبير بوف ـ ميري الذي أسس جريدة 'لوموند' عام 1944 وظل مهووسا طيلة حياته بالحفاظ على استقلاليتها. كان معروفا بالاستقامة الأخلاقية وبالصرامة المهنية التي تكاد تبلغ حد التنسك. قلت إن ما بعض ما يرويه في مذكراته عن مواجهاته مع الجنرال ديغول يكاد لا يصدق لفرط جرأته.
قال ريمي ليفو إن كان كتب ذلك فلا شك عندي أنه صحيح. أما أركون فقد قال باسما إن النزاهة التي كان يتحلى بها مؤسس لوموند لا يمكن أن تتأتى إلا للبروتستانت من الفرنسيين! تعليق فيه من الدعابة بقدر ما فيه من الجد بالنسبة لهذا الأمازيغي الجزائري الطاعن في دراسة الأنثروبولوجيا وعلم الأديان المقارن والعارف بطبائع المجتمع الفرنسي ذي الأغلبية الكاثوليكية.
عندما التقيته بعد ذلك بأربعة عشر عاما في باريس كان لا يزال يتقد حيوية شخصية وشغفا فكريا. حدثني طويلا عن ابن بلدته الروائي الشهير (بالفرنسية) مولود معمري. كان أركون من عائلة متواضعة مثل غالبية خلق الله. ولهذا فقد كان النجاح عنده ثمرة تحد وكفاح. أما مولود معمري، فقد كان من عائلة ميسورة، كما كان أبوه سالم 'أمين' البلدة. حظي معمري بالدراسة في السوربون في منتصف الأربعينيات وبقضاء فترة في المغرب مع عمه الوناس الذي كان مدير التشريفات لدى الملك محمد الخامس رحمه الله. من هنا فقد كان لتألق أركون، إزاء نجومية معمري، دلالة شخصية واجتماعية.
من الأشياء المحببة في شخصية أركون الودودة قدرته على الجمع بين عوالم وأزمان متباعدة. كأن يكتب مثلا أن أبا حيان التوحيدي يذكّره بكاتب حبيب إلى قلبه هو ألبير كامو. أو كأن يقول لك إن العالم الصوفي عبد القادر الجيلاني قد سبق منذ قرون إلى تعريف البحث الابستمولوجي المعاصر عندما قال 'نازعت الحق بالحق للحق'. يتمثل أركون بقولة الجيلاني مرددا، بل متغنيا، ثم يهتف: يا للجمال!
كان أركون (مع المفكر المغربي عبد الله العروي) من أبلغ المثقفين العرب معرفة بفكر بورقيبة السياسي. كان يعتبر أنه خطا خطوات صحيحة، لكن غير كافية، نحو التحديث الاجتماعي. في ندوة عام 1992 في بريطانيا تحدث أركون عن بورقيبة فلم يفهمه إلا القلائل. وفي عام 2006 تجدد الحديث عنه، فكان مما سطره إلي في الإهداء: '... مع الأمل أن نواصل جهادنا الفكري لتجديد الفكر العربي الإسلامي. باريس...' ثم انتبه، فأضاف: 'أعني الجهاد الأكبر'!