محمد عبدالله محمد
ما فَعَلَه الوَقْفَان الدينيان العراقيان في القاهرة قبل أيام هو أمر جيد ومحمود. رئيس الوقف الشيعي صالح الحيدري، ورئيس الوقف السني بالعراق أحمد عبدالغفور السامرائي زارا مِصْرَ وأطْلَعا الأزهر الشريف على أزمات العراق، طالبين منه تعاوناً لنشر الوسطيّة والاعتدال وتبادل الدعاة والأئمة بين البلدين.
كما قام الوفدان laquo;مجتمعانraquo; بتقديم دعوة laquo;رسميةraquo; لشيخ الأزهر أحمد محمد الطيّب لزيارة العراق، والذي وَعَدَ بتلبية الدعوة laquo;في أقرب فرصة ممكنةraquo; بعد أن تسلّمها على هيئة laquo;دعوة مشتركة - سُنّيّة/ شيعيةraquo; وبالهيئة التي كان قد طلبها منهم قبل ثلاثة أشهر عندما دُعِيَ بشكل أحادي لزيارة العراق.
هذه اللفتة من الوقْفَيْن السُّنّي والشيعي تأتي في وقت يحتاج فيه العراق إلى ترتيبات laquo;عاجلة جداًraquo; على جميع المستويات. ليس في أمر تشكيل الحكومة المُعطّلة منذ ستة أشهر فقط وإنما في كلّ شيء. وتأتي مسألة إيكال مهمّات دينية ودعويّة للأزهر الشريف في العراق ضمن laquo;الترتيبات العاجلة جداًraquo; التي تحتاجها أرض الرافدين.
فالقضية الأصليّة في العراق والتي أدّت إلى انقسام طائفي حاد منذ العام 2005 وتعاظمت أكثر بعد العام 2006 هي انعدام توازن laquo;الحضور المذهبي الطبيعيraquo; بين الطوائف المتجاورة فيه. فزيادة مَلْمَحٍ ديني على آخر ضمن معادلة المغالبة والأكثريات والأقليات أضرّ بميزان حسّاس وخطير كان يسير عليه العراق منذ مئات السنين دون أن يُمَسّ أو يتضرّر.
لقد دمَّر العنف الطائفي العراق كما دمَّر أوروبا مِن قبل. أصْلُ المشكلة اليوم هي أن المساحة المُمتدّة من حدود الموصل في الشمال وانحناءً صوب كركوك (خارجاً) ومروراً بالعاصمة (بغداد) وملحقاتها تباعاً إلى الغرب (السُّنّي) ثم الجنوب (الشِّيعي) هي أنها مناطق متورّطة في استقطاب مذهبي حاد سالت بسببه دماء غزيرة. وما عدا ذلك يبقى أقلّ وطأة في تأثيره.
لقد رأينا التفجير الآثِم والخبيث للمرقدَيْن العسكريين في سامراء مطلع فبراير/ شباط 2006 وما أعقبه من عنف أسْوَد ودموي، وتالياً محاولة تفجير مرقد الإمام موسى الكاظم في بغداد والاعتداء على مرقد سلمان الفارسي في المدائن واستهداف زوّار العتبات المقدّسة من الشيعة في عدَّة مناسبات من قِبَل مُجرمين لا ينتمون لا إلى دين ولا إلى مذهب بعينه.
ثم رأينا الحرق والتخريب الإجرامي بحقّ مساجد سُنّيّة كمسجد مالك بن أنس وجامع سعدية العمري في المنصور وتدمير منارة فتاح باشا في بغداد وآخر في منطقة البياع، ومقابر جماعية في المحمودية وحي الفضل السُّنّي من أشخاص حاقدين معتوهين لا ينتمون إلى مذهب بعينه.
ورأينا كيف دُمِّرت كنيسة مار كوركيس للآشوريين في الدورة، وكنيسة مار بينهام ومار مَتّي في بداية حيّ الميكانيك، ثم كنيسة الرسولين عند الدير الكهنوتي، وكنيسة مار يعقوب في منطقة آسيا بالدّورة وتهجير 480 عائلة مسيحية منها على يدّ عصابات إجرامية وقاتلة وهمجيّة ورعناء لا يحميها أي دين.
هذه الفتنة المذهبية التي تخمد وتظهر بين كلّ حين وآخر هي ما يُهدّد العراق اليوم. وللأسف فإن ما قامت به هذه الجماعات الدينية المتطرفة من جرّ المذاهب إلى حيث بعضها البعض بغرض التقاتل والافتتان، قد جعل العراقيين يعيشون هزّة دينية لا نظير لها، وربما تمييلهم نحو التخفّف من الدين ومقتضياته بشكل لافت، كما بيّنت ذلك الانتخابات الأخيرة.
وليس غريباً أن تجتاح المجتمع العراقي في السنوات المُقبلة موجة من الارتداد على الدين فضلاً عن لفظ الجماعات الإسلامية، أو أيّة جماعات تتوشّح باللباس الديني، حين لا يُفرّق العامّة ما بين نصّ مقدّس وبين من يقوم بتأويله. وهي نتيجة طبيعية للإخفاقات التي مُنِيَت بها تلك الأحزاب والجماعات، سواء تلك التي قاتلت بالسلاح أو تلك التي قاتلت في السياسة وآلت إلى الفشل.
والتاريخ يُعلّمنا ذلك بشكل جلي. فلم يكن كتاب لاكمان laquo;العهد الجديدraquo; حول نكران شهادة عينية الأناجيل، أو كتاب laquo;حياة يسوعraquo; لـ ديفيد شتراوس أو نظريات تشارلز داروين حول الخلق والتي اجتاحت أوروبا لتفعل فعلتها عبر تقوية العلمنة إلاّ بعد أن تورّط الكهنوت المسيحي والمتدثرين به في جرائم اجتماعية وقانونية وسياسية جعلته مُهيَّأٌ للانحسار والتلاشي لصالح الضّد.
اليوم العراق لا يحتاج أكثر من تَهْدِئةِ أنوية دينية مُستَثَارَة تمّ استفزازها بغرض تثوير جمهورها لتحقيق أغراض سياسية. ما يحتاجه العراق هو مرجعية laquo;نجفيّة شيعيةraquo; تقود أتباعها باعتدال، إلى جانب مرجعية laquo;بغدادية سُنّيّةraquo; تقود أنصارها باعتدال، دون أن يحتكما إلى مفارز شعبية أو لقوّة الديمغرافيا واستحقاقاتها (أغلبية/ أقليّة).
بل الأكثر أهمية اليوم باعتقادي هو إعادة بناء المرجعيّة السُّنّيّة التي تضرّرت أكثر من غيرها بعد الاحتلال الأميركي لبغداد في أبريل/ نيسان من العام 2003. بمعنى إعطائها مساحة تتناسب ودورها التاريخي في العراق، وتتناسب مع حضورها الإقليمي الممتد على عموم العالَم الإسلامي وعلى مدار التاريخ.
لذا فإن حضور الأزهر الشريف بعلومه وجامعاته ومؤلّفاته وكادره الأكاديمي والدعوي في العراق هو أمر ضروري لإعادة ترتيب الأوضاع الدينية غير المستقرّة ولإعادة التوازن الذي كان سائداً وفق سياقه الطبيعي، بهدف تطمين الجميع وتقديم الدين على أنه عنوان للتوحّد وليس للاختلاف والتناحر.
التعليقات