جلال عارف

أربعون عاماً على الرحيل، ومازال هو الحاضر الأكبر لأنه ـ ببساطة واختصار ـ كان الممثل الشرعي لهذه الأمة وهي تخوض معركتها الكبرى من اجل الحرية والاستقلال، ومن أجل العدل والكرامة، ومن أجل الوحدة والتقدم.

ولأن جمال عبد الناصر كان كذلك، فمازال حتى اليوم هو العنوان الكبير الذي يدور حوله الصراع حول المستقبل، مهما اختلفت الأسماء، ومهما تباعدت الطرق، ومهما حاول المتآمرون والمتواطئون أن يأخذونا بعيداً عن جوهر الصراع الحقيقي .

وهو حق الأمة العربية في أن تتوحد وأن تستقل وأن تملك إرادتها الحرة، وأن تصنع المستقبل الذي يليق بها، وأن يكون محور كل ذلك هو المواطن العربي القادر ـ بالعلم والحرية وبالكرامة الوطنية ـ أن يصنع المعجزات.

قد يبدو هذا ـ ونحن نشاهد ما نشاهده اليوم في واقعنا العربي الرديء ـ حديثاً عن الأوهام، ولكن حين نستعيد بعض صفحات التاريخ القريب، وندرك ما الذي استطاعت الأمة تحقيقه في أقل من عشرين عاماً مع عبد الناصر، وفي أصعب الظروف.

وفي غيبة الإمكانيات، ومع الحروب والمؤامرات التي لم تتوقف، حين ندرك ذلك نعرف لماذا كان عبد الناصر وما يمثله هو الخطر الأكبر بالنسبة لأعداء الأمة، ولماذا يظل الرجل بعد أربعين عاماً من الرحيل حياً في وجدان أمته، ولماذا تنظر الملايين من العرب حولها فتدرك أن الخلاص لن يكون إلا في استئناف المسيرة التي كان الرجل عنواناً لها، ومازال!

كان أعداء الأمة ؟ في حياته ؟ يزعمون أنهم لا يريدون إلا الخلاص منه، وأن مشكلتهم هي معه وليست مع الشعب العربي. لكن ها هي الحقائق بعد أربعين عاما من الرحيل تقول إن الملايين من الأمة العربية كانت على حق وان الهدف لم يكن عبد الناصر بشخصه بل بما يمثله. ولهذا تستمر المعركة حتى اليوم، وتستمر المحاولة الفاشلة لمحو هذه الصفحة من التاريخ العربي من عقل ووجدان الأمة.

على مدى أربعين عاماً كان مطلوباً أن تنسى مصر أنها حين أكدت عروبتها كانت تؤكد ذاتها وكانت تفتح الباب لإطلاق طاقات الأمة التي لا حدود لما تستطيع انجازه حين تمتلك الرؤية والقيادة، ومهما كانت مقاومة الأعداء.

واليوم ـ وأكثر من أي وقت مضى ـ تعرف مصر مدى الخسارة التي تلحق بها وبعالمها العربي حين تنكفئ على مشاكلها الداخلية وحين ترضى بالحلول المنفردة مع عدو يعرف أن معركته الأساسية هي مع مصر ولو بعد عشرات السنين!

الآن، وبعد أربعين عاما من الرحيل، تدرك الملايين في مصر والعالم العربي معاً كم كانت الخسارة فادحة، مصر التي قادت وقاتلت وضحت تحاصر بمشاكلها الداخلية وبظروف إقليمية وباتفاقات ومعاهدات لم تحقق السلام .

ولم تجلب الرخاء كما قيل، بل أنتجت واقعاً صعباً بتحدياته السياسية والاقتصادية وبالمؤامرات الأخطر على وحدتها الوطنية، والعالم العربي الذي كان يحلم بالوحدة والتقدم الذي يملك كل إمكانياتهما يواجه كل المخاطر ويعاد رسم خريطته ـ في غيابه ـ من القوى الخارجية والإقليمية.

ضاع العراق، وضاعت الصومال، واليمن مهدد، ولبنان في محنة، والسودان يجري تقسيمه على مراحل وبسكين أميركية باردة، وفلسطين يجري تصفية قضيتها بينما الإخوة يتصارعون على من يتولى مسؤولية منع إطلاق الصواريخ من غزة أو تأمين الهدوء للمستوطنين في الضفة!

غاب المشروع العربي للنهضة الذي كان عبد الناصر عنوانه البارز، فانفتحت أبواب التراجع والتجزئة وتقسيم الأوطان، وارتفعت أصوات تغني بعودة المستعمر أو تطلب الخلاص بالعودة للجاهلية، أو تتصور الحماية من الذين لا ينكرون أن العروبة هي عدوهم الأساسي.

وأن وحدة العرب وتقدمه هو الخطر الذي لا بد من مقاومته بكل الوسائل التي تضعنا الآن أمام الفتنة الكبرى التي يراد زرعها بين الشيعة والسنة، وبين المسلمين والمسيحيين، لتفتك بما تبقى من صورة الوطن وتشعل حروب الطوائف من المحيط إلى الخليج.

وسط هذا كله يصبح عبد الناصر هو الرد الذي تقوله الملايين ـ حتى من الذين كانوا يعارضونه في حياته، أولا يوافقون ـ على بعض جوانب سياسته. إنه الصورة التي يرفعها شباب في العشرينات حين يتظاهرون في شوارع القاهرة أو بيروت أو في قلب معسكرات اللاجئين الفلسطينيين طلباً للحرية والعدل ودعما للمقاومة.

إنه التعبير عن قرار الأمة بان لديها البديل عن الطائفية التي يحاولون زرعها، والتطبيع الذي يريدون فرضه، وسؤال الهوية الذي يعيدون طرحه بعد أن حسمناه لصالح العروبة ومعها، وضد الصهيونية والهيمنة الدولية أو الإقليمية، ورفضاً للتجزئة والطائفية، وتمسكاً بقدرة العرب على صنع المستقبل الذي يستحقونه والذي علمتهم التجربة مع عبد الناصر أنهم قادرون علي صنعه.

أربعون عاما على رحيله، ومازال عبد الناصر هو التحدي للأعداء ولنا!! الأعداء يحاولون محو صفحته من تاريخ امتنا فيفاجأون بأنه مازال حيا في قلوب الملايين ـ ونحن نعرف ـ ربما أكثر من أي وقت مضى ـ أن خلاص الأمة هو في استعادة المشروع العربي الذي كان عبد الناصر ومازال هو عنوانه الأكبر