علي سعد الموسى
الأحكام القضائية لا تخضع للمعيارية المطلوبة، وهذا ما يهز هيبة القضاء ومصداقيته أمام الجمهور، رغم أن القضاء نفسه بريء نزيه لسبب مقنع بسيط: أن القضاء والقضاة أنفسهم لم يتعمدوا هذه التباينات الجوهرية.
أتختصر القصة التالية حيثية الحاجة لتقنين القضاء: ثلاثة من البالغين الراشدين مع اثنين من الأحداث الصغار سناً تورطوا في عملية سطو لسرقة محل تجاري في إحدى المحافظات، وتبعاً لأن المحافظة النائية عن مركز المنطقة كانت تفتقر إلى دار للملاحظة ليودع بها الحدثان، فقد تم نقلهما إلى العاصمة الإدارية للمنطقة، وبالتالي فقد حوكما على الجناية في دائرة قضائية مختلفة عن ذات الدائرة التي حوكم فيها البالغون الراشدون أمام قاضي المحافظة حيث وقعت الجريمة. وتبعاً لاختلاف دوائر القضاء فلم يصدر لذات الحادثة الجنائية حكمان مختلفان فحسب، بل مدهشان في آن واحد: المحكمة القضائية بالمحافظة تصدر حكمها على البالغين الراشدين بالسجن لستة أشهر، فيما يتلقى الأحداث حكماً بالسجن لعامين كاملين أمام قاضي المدينة (الأم الإدارية). الأحداث الصغار يتلقون أربعة أضعاف عقوبة البالغين الراشدين، وهم جميعاً شركاء في ذات حدود ومعالم الحادثة الجنائية.
في القصة الأخرى تذكر الأخبار الصحفية أن مرتكبي حادث التحرش الشهير في نفق النهضة بالرياض قبل أعوام تلقوا ما يقارب عقوبة مضاعفة من السجن عن تلك العقوبة التي استحقها تعزيراً مرتكب الجنح الشنيع باختطاف طفل واغتصابه في منطقة أخرى رغم تباين ndash; الجرمين ndash; الذي يجنح فظاعة وإجراماً بحق الاغتصاب لطفل بالمقاربة مع جريمة تحرش بامرأة راشدة.
أحمل في أرشيفي أيضاً ما يبرهن على هذه المفارقات من الأحكام، وبالتحديد في جرائم الحدود والجنح الأخلاقي حيث القضاء فيها مقاربات توفيقية لرؤية القاضي الفاضل وتقديره للعقوبة حسب معالم الحادثة. وبالبرهان فإن حادثتي اختطاف واغتصاب لطفلين في سن الرابعة والسادسة في حادثتين منفردتين قد استلزمتا على التوالي حكمين بأربع سنوات (لمختطف الطفل ذي السنوات الأربع) وست سنوات لمرتكب الجريمة الأخرى، ومن المفارقة اللافتة أن الحكم بالسجن كان مطابقاً لسن الطفل المختطف. نعرف جميعاً أن كل فرد بيننا يستطيع أن يدلي بقصصه المماثلة، ومن بيننا أيضاً حتى هؤلاء القضاة الأفاضل الذين يستطيعون هم أيضاً أن يسردوا مثل هذه الشواهد. لست بأول من يشير إلى مثل هذه القصص القضائية، ولكن: أنا أجزم تماماً أن الأفاضل من القضاة هم أول ضحايا عدم التقنين لأن هذه التباينات في الأحكام القضائية لذات الجرائم المتناسقة في حيثياتها وظروفها لا تعطي إلا الإشارة السلبية التالية: أن الأحكام القضائية لا تخضع للمعيارية المطلوبة، وهذا ما يهز هيبة القضاء ومصداقيته أمام الجمهور، رغم أن القضاء نفسه بريء نزيه لسبب مقنع بسيط: أن القضاء والقضاة أنفسهم لم يتعمدوا أو يتقصدوا هذه التباينات الجوهرية في الحكم المختلف على قضايا متشابهة. القضاء والقضاة هم أول الضحايا لأن هذه النتيجة لم تولد شيئاً سوى الانطباع العام السائد بين الجمهور بأن القاضي في كل الأحكام لا شيء لديه ليجتهد فيه قضاء سوى الخيارات اليومية المتاحة بين حزمة من العصي للجلد بالأرقام وبين حزمة أخرى من الأيام والشهور والسنين ليستل منها ما شاء بحسب رؤيته وتقديره للواقعة. هذا هو الانطباع الجماهيري عن وظيفة القضاء وبهذا الانطباع تبدو وظيفة القضاء (مهنة لا مسؤولية) واحدة من أبسط المهن وأكثرها سهولة، وبهذا الانطباع للرأي العام، فإن ذات الرأي العام لم يعد يعتقد أن القضاء اختصاص وعلم ودراسة بقدر ما هو رؤية تقديرية لا تحتاج أكثر من شخص يملك فراسة الخيار بين حزم العصي والأيام، ثم يحكم بها وفقاً لتقديره للحادثة أمامه. لاحظوا أنني أتحدث عن تباينات القضاء في مسائل الحدود والجنح الأخلاقي فقط.
ما الذي تحتاجه خطوة جريئة لتقنين القضاء بعد هذا الجدل الطويل الذي لم ينته من عقود حول هذه المسألة؟ تحتاج أولاً أن يفهم القضاة الأفاضل أنهم ضحايا عدم التقنين لأنهم ضحية الانطباع الجماهيري عن القضاء في حيثيات الواقع. تحتاج ثانياً لأن يتفهم الجهاز القضائي أن الجهاز هو أيضاً الضحية لأن ذات الانطباع الجماهيري يطبع في الأذهان أن القضاء مجرد تقوى وفراسة لا اختصاص ومهنة وبحث. تحتاج ثالثاً إلى بث الأمان للقضاء والقضاة أن التقنين لأحكام القضاء لن يسلب من القاضي حدود صلاحياته وهوامش قدرته على الاستنباط والاجتهاد. القانون والنظام المكتوب وكذا التدوين في كل مناحي العمل الإداري، في القضاء أو في غيره، دائماً ما تبث في المسؤول رسالة خاطئة في أن كتابة القانون وتحديد أطر الصلاحية وتدوين منهاج عمله اليومي المعتاد وفق رسم وبند وفقرة واضحة محددة تحيل الفرد القائم على رأس المهمة إلى مجرد آلة تسيير للعمل وتطبيق إجرائي روتيني له، ولهذا يهرب أي مسؤول من حتمية التدوين للصلاحيات والقانون ويتهرب دوماً من الالتزام بحرفية المنهج الإداري ولا ينظر بإعجاب إلى إضبارة الأنظمة واللوائح على طرف طاولته. هذه هي المخاوف الجوهرية التي لا أساس لها في البرهان والواقع اليومي، ولعله لهذا يبدو القضاة في كل بلد ومجتمع صفوة العقول ومحل الإعجاب، لا لأنهم صفوة العقول فحسب، بل لأنهم يحملون القانون: أصعب العلوم وأعقدها وأكثرها بريقاً في انطباعات الرأي العام.
التعليقات