خليل حسين

مفارقة العمالة لـ ldquo;إسرائيلrdquo; في لبنان أنها باتت وجهة نظر، في بلد تمكنت مقاومته من تسجيل سابقة في تاريخ الصراع العربي ldquo;الإسرائيليrdquo; وهي إجبار قوات الاحتلال على الانسحاب عنوة من أراض احتلتها لربع قرن تقريباً . علاوة على ذلك ثمة من تعدى المعقول والمقبول عادة في الحياة السياسية اللبنانية ليعبر عن آراء ومواقف غير مسبوقة تجاه ldquo;إسرائيلrdquo; .

في الواقع تعد العمالة في مطلق بلد قضية من الصعب أو من المستحيل تبريرها أو إيجاد الأعذار التخفيفية لها . وفي مطلق الأحوال ثمة إجماع على ضخامة السلوك الذي يؤدي إلى أحكام تصل إلى الإعدام دون معارضة تذكر حتى في الدول التي تتغنى بالديمقراطية وحقوق الإنسان والإعراض عن تنفيذ أحكام الإعدامات . وإذا كانت طبيعة الأمور ترتدي هذه الحدة في النظرة والتعامل مع مثل تلك القضايا في معظم دول العالم، فهل ثمة ما يبرر أن تكون الأمور مختلفة في لبنان مثلاً . في الواقع يمكن تسجيل العديد من الملاحظات والمفارقات في هذا السياق ومن بينها:

لقد بلغ عدد المعلن عن اكتشاف عمالتهم ل ldquo;إسرائيلrdquo; في لبنان مؤخراً إلى 154 عميلاً، وهم بطبيعة الحال ينتمون إلى طوائف ومذاهب مختلفة، كما هم من مناطق لبنانية متعددة، علاوة على النوعية والشرائح الاجتماعية التي ينتمون إليها . فمثلاً بينهم المدنيون كما العسكريون، كذلك البيئات المتواضعة كما الميسورة، وفيهم المختص ذات التعليم العالي كما شبه الأمي . باختصار مروحة متنوعة من العملاء تتناسب مع طبيعة العمل الذي يمكن أن يوكل إليهم .

ثمة قسم منهم سبق وتعامل مع ldquo;إسرائيلrdquo; علناً ومباشرة عبر الميليشيات التي أنشأتها ldquo;إسرائيلrdquo; في أعقاب احتلالها لجنوب لبنان بعد عام ،1978 ومنهم من حكم عليه بأحكام تخفيفية جداً بعد انسحاب ldquo;إسرائيلrdquo; في عام 2000 ونفذت محكوميتهم وعادوا إلى التعامل مع ldquo;إسرائيلrdquo; .

إن النسبة التي كشف عنها حتى الآن هي نسبة كبيرة مقارنة بتعداد الشعب اللبناني، وهي بطبيعة الأمر نسبة مقلقة، لها دلالاتها وأبعادها التي ينبغي التدقيق فيها وبأسبابها وسبل معالجتها .

إن الأعمال التي نفذتها هذه الشبكات أفراداً ومجموعات أدت إلى المسِّ بشكل مباشر في العديد من مواقع الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية اللبنانية، وبالتالي تعد نوعية الأعمال المطلوبة من هؤلاء العملاء أعمالاً حساسة جداً تشمل قضايا ومسائل وأموراً ليست أمنية عسكرية بالضرورة متعلقة فقط بالمقاومة اللبنانية مثلاً .

إن التدقيق بصنف العملاء ذات الطبيعة التكنولوجية المعلوماتية وما كلفوا به عملياً، يظهر قدرة ldquo;إسرائيلrdquo; على كشف الواقع اللبناني بمختلف جوانبه والتحكم به بنسب لافتة تستطيع من خلاله مسك الكثير من مفاصل الحياة السياسية والأمنية والمالية والاقتصادية اللبنانية، باختصار بات لبنان مكشوفاً بشكل شبه كامل ل ldquo;إسرائيلrdquo; .

وغريب المفارقات ما يتم التداول به تأويلاً وتصريحاً، وبشكل واضح وملتبس أحياناً، من أن ثمة فئة من وزن أصحاب الحل والعقد متورطون بالعمالة، واللافت في هذا الموضوع بالذات أنه يُستعمل في كثير من الحالات كمسائل للابتزاز السياسي بين الأطراف السياسية اللبنانية، أو في مجال المقايضة في تمرير بعض الملفات ذات الطبيعة الوازنة .

والأغرب والأنكى في هذا المجال، تصريح أحد نواب حزب الكتائب اللبنانية علناً بأن حزبه قد تعامل واستفاد من ldquo;إسرائيلrdquo; في مواجهة سوريا في لبنان، ورغم أن مثل هذه المعلومات لا تعتبر من نوع إفشاء الأسرار في لبنان إلا أنها ارتدت طابع التحدي وهي سابقة في الحياة السياسية اللبنانية التي يُصرح بها نائب في الندوة البرلمانية بهذا الوضوح، ما يمكن أن يشكل منعطفاً في طريقة مقاربة الأمور في لبنان مستقبلاً إذا مر الأمر مرور الكرام . وهنا من المفيد الإشارة إلى أن الحصانة البرلمانية لا يمكن الاعتداد بها لملاحقة النائب على مثل تلك التصريحات، باعتبارها ليست موضوع تصريحات سياسية بقدر ما هي مواقف تشكل عملاً عدائياً ضد الأمن الوطني اللبناني التي تصل أحكامه في قانون العقوبات اللبناني إلى الإعدام .

إن خصوصية الواقع اللبناني تعطي قضية العمالة أبعاداً خاصة في لبنان من الصعب تجاوزها والقفز فوقها . فلبنان مثلاً هو في حالة حرب عملياً مع ldquo;إسرائيلrdquo; أولاً، كما أن ثمة بعض الأراضي التي ما زالت ldquo;إسرائيلrdquo; تحتلها (مزارع شبعا وتلال كفرشوبا) ثانياً، كما أن عقيدة قواته المسلحة تعتبر ldquo;إسرائيلrdquo; دولة عدوة، علاوة على وجود القوة الوازنة للمقاومة في مواجهة ldquo;إسرائيلrdquo; بخلاف كل دول الطوق الجغرافي لفلسطين المحتلة . وفوق ذلك كله ثمة نصوص قانونية واضحة جداً لا لبس فيها تحدد العدو من الصديق كما تحدد العقوبات المفترضة لكل جريمة ترتكب .

إن الأحداث التي مر بها لبنان منذ النصف الأول لعقد السبعينات من القرن الماضي، أسَّس لبيئة اجتماعية هشة قابلة للاختراق بسهولة نظراً لتداخل الكثير من العوامل الخارجية وتأثيراتها في الواقع الداخلي اللبناني، وبخاصة في ما سُمي لاحقاً بالبيئات الحاضنة للعملاء، وهي ليست بالضرورة بيئات ذات بعد طائفي أو مذهبي كما يحاول البعض الترويج له أو تظهيره كثابت في التركيبة الطائفية في لبنان .

صحيح أن لبنان مرَّ في ظروف محلية وإقليمية ودولية معقدة جداً ما أرخى بتداعيات قاسية على السلوك الاجتماعي في لبنان، إلا أن ذلك لا يمكن أن يكون سبباً أو عاملاً من عوامل الظروف التخفيفية للعمالة لمصلحة ldquo;إسرائيلrdquo;، كما أنه لا يجوز التعامل مع هذه الظاهرة التي يُفترض أن تكون عابرة في الحياة السياسية اللبنانية على أنها حالة طبيعية أو مألوفة أو يمكن التعايش معها .

طبعاً ثمة ما يشبه الاسترخاء السلوكي لدى بعض صِغار النفوس ممن تعاملوا مع ldquo;إسرائيلrdquo; سابقاً وعادوا وجددوا علاقاتهم معها بعد انسحابها عام ،2000 لكن ذلك مرده إلى خطأ فادح وقعت فيه السلطات اللبنانية ليست بالضرورة القضائية وحدها، ومفادها الأحكام التخفيفية الشديدة التي استفاد منها الجميع ممن حوكموا في الفترة التي أعقبت الانسحاب ldquo;الإسرائيليrdquo;، حتى باتت المحاكمات مجالاً للتندر بين اللبنانيين، على قاعدة أن الذين حوكموا بجرائم العمالة والتنكيل والقتل حُكِموا لأشهر فقط وفي سجون من خمسة نجوم، العيش فيها كان أسهل وأريح من شظف العيش خارجها .

وحتى لا تصبح العمالة في لبنان وجهة نظر غير خاضعة للمساءلة والمحاكمة كما يفترض منطق الأمور، ينبغي التعامل مع هذه الظاهرة بشدة وقسوة متناهية وعلى قاعدة تطبيق العقوبات القصوى لجرم العمالة التي ينبغي أن تسود فيها حالات أحكام الإعدام وبشكل متسارع ومن دون إبطاء أو مراعاة لظرف ما أو لحالات محددة كما هو شائع .

إن البحث عن الأسباب والأعذار التخفيفية في هذا المجال لن ينتج سوى المزيد من حالات الاسترخاء السلوكي لدى بعض الأفراد، وبالتالي التمادي في الغي والعمالة، وبالتالي فإن تشديد العقوبات هو حل واقعي لردع من تخوّله نفسه الانزلاق إلى هذا الدرك الخطير . في جنوب لبنان لم تحصل ضربة كف لأي عميل بعد عام ،2000 وترك الأمر للقضاء اللبناني، فيما المقاومة الفرنسية أعدمت ميدانياً آلاف العملاء في الشوارع من دون محاكمة، فهل ثمة عبرة يمكن أن تتخذ من هذه الوقائع؟