عصام نعمان

في الواقع، كما في الأدب السياسي، لبنان ساحة . هو كذلك اليوم أكثر من أي وقت مضى: لا دولة بل نظام فاسد متفكك، لا حكومة متجانسة صاحبة قرار بل شبكة حاكمة بسلطة هزيلة وهزلية موزعة على جملة مواقع وهيئات وفعاليات وشخصيات، لا سياسة واضحة هدفها الصالح العام بل منافسة فاقعة غايتها اقتناص المغانم وتقاسم الأسلاب وتوسيع دوائر النفوذ، لا انتماء للبنان إلاّ في صفوف الجيش، ولا ولاء للوطن ولا دفاع عنه في وجه ldquo;إسرائيلrdquo; إلاّ في صفوف المقاومة وحلفائها الوطنيين اللاطائفيين .

لبنان ساحة مفتوحة على كل الاحتمالات . لا داخل فيه مستقلاً عن الخارج . فالخارج مقيم دائماً في داخله، قائد له وقدوة .

قلةٌ في الداخل لا تتماهى مع جهة في الخارج . التماهي مع الخارج طريقة حياة . وحدها المقاومة وحلفاؤها يشبهون أنفسهم لأن الداخل، بمعنى الكيان الوطني، هو وجودهم وهويتهم ومرجعيتهم . لذلك فهم استثناء مزعج للقاعدة، أي للكثرة التي لا تجد نفسها إلاّ في لقاء حميم مع الخارج، أي مع الغرب الأوروبي والأمريكي .

في واقعه المعقد هذا يبحث اللبنانيون، أفراداً وجماعات، دائماً عن نقاط توازن . تاريخ لبنان السياسي سجل لبحث موصول، بوسائل شتى، عن نقاط توازن لتوطيد الأمن والاستقرار . في المقابل، يسعى الخارج، لاسيما الغرب ووكلاءه في الداخل، إلى منع اللبنانيين من الوصول الى نقاط توازن إلا على شروطه وبما يحمي مصالحه .

في المواجهة القائمة حالياً بين وكلاء الخارج وأحرار الداخل في لبنان، يتمحور الصراع بين مريدي المحكمة الدولية الناظرة في جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري ومعارضي المحكمة المذكورة . وكلاء الخارج يتمسكون بالمحكمة كونها درع وقاية لسلطتهم ومصالحهم المتلازمة مع وجود الغرب ونفوذه في الداخل . أحرار الداخل يعارضون المحكمة كونها نتاج قرار لمجلس الأمن الدولي (1557) جرى بموجبه إقرار اتفاق، وبالتالي نظام أساسي للمحكمة الدولية على نحوٍ مخالف للدستور اللبناني ومن دون مصادقة مجلس النواب عليه . فوق ذلك، جرى استخدام لجنة التحقيق الدولية وبالتالي المحكمة نفسها للنيل من قوى متحالفة مع سوريا، بل للنيل من سوريا نفسها بقصد تغيير نظامها السياسي . وبعد تبرئة ساحة ضباط قادة أربعة من حلفاء سوريا كانوا اعتقلوا تعسفاً مدة أربع سنوات، تسربت معلومات من محيط المحكمة نفسها عن قرار اتهامي يعدّه المدعي العام لديها (دانيال بلمار) لإلصاق تهمة اغتيال رفيق الحريري بحزب الله، وذلك بالاستناد الى شهادات شهود ثبت أن بعضهم شهود زور باعتراف ldquo;ولي الدمrdquo;، أي نجل المغدور، رئيس الحكومة سعد الحريري .

إذ يطلب حزب الله وسائر قوى المعارضة أن ينسجم سعد الحريري مع اعترافه بمسؤولية شهود الزور، فيوعز الى القضاء بملاحقتهم لمعرفة من فبركهم واستخدمهم، تراه يتباطأ بل يحاول تفادي الأمر بدعوى أن الملاحقة مرهونة بصدور القرار الاتهامي . لماذا؟

يتردد في أوساط الحريري أنه يريد شراء الوقت لأن صدور قرار اتهامي بحق حزب الله من شأنه تشويه سمعته وبالتالي إضعافه، فلا يعود التحقيق مع شهود الزور أمراً ملحاً، بل تثور عواطف الناس ضده وتقوى حجة المطالبين بتجريده من السلاح .

الحق أن حسابات فريق الحريري تنطوي على قدر كبير من السذاجة . فالمحكمة الدولية فقدت صدقيتها ولن يكون لقرارها الإتهامي أي تأثير في حزب الله أو غيره من قوى المعارضة . بالعكس، ان تباطؤ الحريري وحلفائه في محاكمة شهود الزور بعد انشكاف دورهم يسيء الى رئيس الحكومة ويظهره بمظهر الراغب في التستر عليهم، خوفاً من أن يكشف التحقيق من فبركهم واستخدمهم ضد الضباط الاربعة وسوريا وحزب الله .

الى ذلك، يطرح موقف الحريري الملتبس سؤالاً حول الجهة الخارجية التي تسانده . هل هو فريق داخل الإدارة الامريكية معادٍ لحزب الله وسوريا؟

من المعلوم أن الحريري اعترف بدور شهود الزور ودانهم بمقابلة نشرتها صحيفة ldquo;الشرق الأوسطrdquo; السعودية، الأمر الذي يعني أن تصرفه يستبطن موافقة صريحة من الرياض . فهل يعقل أن يقوم لاحقاً بنقض الموقف المتفق عليه معها؟ وإذا كان الحريري قد تجرأ فعلاً على نقض موقفه الأول، فهل إن فريقاً في إدارة الرئيس أوباما نصحه بالامتناع عن ملاحقة شهود الزور لأن من شأنها فضح دور من فبركهم واستخدمهم، وبالتالي الإساءة إلى المحكمة نفسها وتهديد استمرارها من جهة، ودعم موقف حزب الله من جهة أخرى؟

أكثر من ذلك، ثمة من يعتقد أن المفاوضات بين ldquo;إسرائيلrdquo; والسلطة الفلسطينية آيلة الى الانهيار في المستقبل القريب، وأن ذلك يتطلب قيام ldquo;إسرائيلrdquo;، كعادتها دائماً، بافتعال أزمة محلية أو إقليمية تغطي بها مسؤوليتها عن تفشيل المفاوضات . فهل يكون تفجير أزمة شهود الزور تمثيلية ألعاب نارية لجذب انظار العالم بعيداً من الوضع الفلسطيني المتفجر، تماماً كما فعلت في لبنان بعد إقرار اتفاقات ldquo;كامب ديفيدrdquo; بينها وبين مصر أواخر سبعينات القرن الماضي؟

أخيراً وليس آخراً : هل يتغافل اللبنانيون عمّا تعده لهم وضدهم ldquo;إسرائيلrdquo;؟