خالد السرجاني

منذ أن جاء حزب العدالة والتنمية إلى السلطة في تركيا، وهناك نزعة انبهار عربية بما يحدث هناك. وأسباب هذه النزعة تعود إلى أن تركيا أصبحت تمثل الكثير مما لا تستطيع الدول العربية أن تمثله، فهي تنتهج سياسة مستقلة نوعا ما عن الولايات المتحدة الأميركية، فضلا عن أنها تتمتع بقدر كبير من الديمقراطية التعددية، وتطبق نموذجا متطورا للربط بين الإسلام والحداثة. وكل هذه الأمور من الأمنيات التي يتطلع إليها أي مواطن عربي.

والملاحظ أن الانبهار العربي بتركيا يشمل تيارات سياسة كانت من التيارات المعادية تقليديا لها، مثل التيار القومي العربي الذي نشأ كرد فعل على الحكم العثماني التركي للدول العربية، والذي ظل على الدوام يحذر من دور تركي إقليمي مركزي في المنطقة، باعتبار أن ذلك يمثل تحولا في النظام الإقليمي من عربي إلى شرق أوسطي يستهدف تهميش الدول العربية، بما يؤثر سلبا على مصالحها القومية العليا.

بل إن بعض المنتمين إلى هذا التيار كتبوا مطالبين بإحياء الخلافة الإسلامية، على أن يكون رجب طيب أردوغان هو خليفة للمسلمين، ولكن يبدو أنهم كتبوا ذلك نكاية في الحكام العرب، فضلا عن أن بعضهم أصبح لا يمانع في أن يحدث تعديل ما في النظام الإقليمي العربي، بما يضمن وجودا ما لتركيا فيه.

ومن التيارات التي انبهر المنتمون إليها بتركيا في الآونة الأخيرة، التيار الإسلامي المعتدل، وليس الجهادي، ويرجع ذلك إلى أن العدالة والتنمية ذو جذور إسلامية، وأنه يريد تحويل الدولة من العلمانية الكاملة إلى قدر من المصالحة مع الإسلام. وهم ينبهرون بتجربة تركيا، باعتبار أنهم يريدون أن تتاح لهم الفرصة لتطبيق تجربة مماثلة في الدول العربية.

وقدر من انبهار الإسلاميين بالتجربة التركية، أنها استطاعت وضع حد لتدخل المؤسسة العسكرية في الشأن السياسي وفي الحياة العامة، ذلك أن عددا كبيرا من المنتمين إلى تيارات الإسلام السياسي العربية، يرى أن العقبة الأساسية التي تقف في وجههم هي المؤسسة العسكرية، وهم بالتالي يريدون العمل على تكرار مثل هذه التجربة في بلادهم.

والتيار الثالث الذي ينبهر المنتمون إليه بتركيا في الوقت الراهن، هو التيار اليساري، أو على الأقل بعض فصائله، وهذا الانبهار يرجع إلى عاملين؛ الأول أن العدالة والتنمية حول تركيا من دولة غربية تماما إلى وسطية، فبعدما كانت ركيزة أساسية في المعسكر الغربي، خرجت عن طوعه في العديد من الاستحقاقات الدولية.

وفي مقدمتها الحرب على العراق، وفرض عقوبات اقتصادية على إيران على خلفية ملفها النووي، وانتهجت سياسية متوازنة الى حد ما في ما يتعلق بالصراع العربي الإسرائيلي، وبالتالي فإن اليسار رأى في تركيا حاليا انتقاصا من جبهة الهيمنة الأميركية على العالم، وإن كانت تركيا ما زالت دولة رأسمالية، وما زلوا يرون أن العدالة والتنمية يمثل يمين الوسط.

والغريب أن التيار الليبرالي العربي كان هو الأكثر تحفظا في ما يتعلق بالانبهار بتركيا، رغم أن كافة الخطوات التي اتخذها حزب العدالة والتنمية، تسير نحو تعزيز الليبرالية في تركيا، ولكن يبدو أن الليبراليين العرب لديهم أجندة سياسية جعلتهم يتحفظون على raquo;العدالة والتنميةlaquo;، وبالتالي على الخطوات التي يتخذها.

وبالطبع فإن الانبهار بما يحدث في تركيا يعد أمرا مشروعا، خاصة وأنه يأتي في ملفات ذات صلة بالقضايا العربية، لكنه ينبغي أن يوضع في حدوده الحقيقية، خاصة أنه يتغافل عن عدد من النقاط الأساسية.

في مقدمتها تاريخ تركيا العثمانية الذي لا يخفي العدالة والتنمية أنه يريد إعادة إحيائه بصورة معدلة، وأن العدالة والتنمية نفسه ليس باقيا في الحكم بصورة مؤبدة، وإنما الديمقراطية التعددية التي تطبقها تركيا يمكن أن تعيده إلى المعارضة مرة أخرى، وهذا الأمر يجب أن يوضع في الحسبان عند وضع أي صيغة للتعاون مع تركيا في المستقبل.

ومن الأمور التي يجب أن تتنبه لها النخبة العربية وهي تنبهر بتركيا، أن تركيا ما زالت لها علاقات قوية بإسرائيل، رغم التوتر المحسوب في علاقاتهما الراهنة. كذلك فهي يمكن أن تكون نموذجا يطرحه العالم الغربي في مواجهة الدول العربية الرافضة للتطبيع مع إسرائيل، لكي تحذو حذوها هي الأخرى.

كل ذلك يعني أن التطورات التي تحدث الآن في تركيا إيجابية بالنسبة للدول العربية، لكن التعامل معها ليس سهلا ولا بسيطا، وإنما مركب له أبعاد متعددة وله تأصيل تاريخي يجب وضعه في الاعتبار، ويتطلب درجة من الحذر في التعاطي معها، وعلى النخبة العربية أن تعي ذلك جيدا.