طارق أبو العينين


زوبعة من الجدال أثارتها فتوى الشيخ السلفي محمود عامر بوجوب قتل الدكتور محمد البرادعي المدير السابق للوكالة الدولية للطاقة الذرية والشيخ يوسف القرضاوي المعروف بولائه لجماعة الإخوان المسلمين باعتبارهما من أبرز الدعاة إلى العصيان المدني في مصر، وكل من يدعو إلى العصيان المدني يعدّ من وجهة نظره من الخوارج، ومن ثم فإن الشرع منح ولي الأمر الحق في معاقبته بالقتل.

وعلى رغم الهجوم الشديد الذي لاقته تلك الفتوى من قيادات الدولة الدينية ممثلة بمفتي الديار المصرية الشيخ علي جمعة بل ومن بعض الصحف القومية الوثيقة الصلة بالنظام كصحيفة laquo;روزاليوسفraquo;، إلا أن طبيعة العلاقة التاريخية والآنية الملتبسة بين الدولة والإسلاميين في مصر صورت لمطلقها إمكانية توظيفها سياسياً للحصول على بعض المكاسب التي قد تمكّن التيار السلفي المتشدد من الهيمنة على الشارع المصري من جديد. فقد بدأت ملامح تلك العلاقة الملتبسة تتشكل منذ بدايات عهد الرئيس جمال عبدالناصر إثر اتهام بعض قيادات جماعة الإخوان وفق رواية السلطات وقتها بتدبير عملية فاشلة لاغتياله في ميدان المنشية في الإسكندرية في 26 تشرين الأول (أكتوبر) عام 1954، ما دفع النظام الناصري إلى الدخول في صدام مع الجماعة انتهى، كما هو معروف، بحملات اعتقال واسعة طاولت أعضاءها وبأحكام قاسية أصدرتها محكمة الثورة وصلت في بعض الأحيان الى الإعدام. وفي ظل تلك الأجواء تبلورت داخل صفوف جماعة الإخوان حال من الانقسام بين التيار المعتدل من كوادر الجماعة والتيار المتشدد الذي تفتّح وعيه السياسي داخل المعتقلات الناصرية، موظفاً هذا الظرف غير الإنساني في تبرير رؤيته المتطرفة بتكفير الحاكم والمجتمع، ومن ثم مواجهة الاثنين بأسلوب العنف المسلح وفتاوى التكفير. ومع بداية عهد الرئيس السادات أخذت تلك العلاقة منحى جديداً، إذ أقدم السادات على توظيف التيار الإسلامي في معركته مع الماركسيين والناصريين متجاهلاً هذا التناقض بين التيار السلفي العنيف ممثلاً بالجماعات الإسلامية المتشددة والتيار المعتدل ممثلاً بجماعة الإخوان المسلمين، فكان هذا التوجه بمثابة إخراج للمارد من القمقم وفق وصف الصحافي المصري محمد حسنين هيكل في كتابه laquo;خريف الغضبraquo;، وأدى في النهاية إلى أن يلقى السادات حتفه في حادث المنصة في 6 تشرين الأول (أكتوبر) عام 1981 على يد الجماعات الإسلامية المتطرفة. إلا أن النظام منذ بداية عهد مبارك قد بدا مدركاً لهذا التناقض في الوسائل والخطاب بين جماعة الإخوان المسلمين وبين الجماعات السلفية العنيفة، فعلى رغم عدم سماح الدولة للإخوان بتأسيس حزب سياسي، إلا أنها سمحت لهم بممارسة نشاطهم السياسي طيلة عقدي الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي وقت أن كانت المعركة مستعرة ما بين الدولة والجماعات السلفية المسلحة وانتهت بتقليم أظافر تلك الجماعات ووضع معظم قياداتها داخل السجون والمعتقلات.

إلا أن الأوضاع في مصر مع نهاية عقد التسعينات وبداية العقد الأول من الألفية الثانية تغيرت كلياً، إذ قامت الجماعة الإسلامية السلفية المسلحة ومن بعدها جماعة الجهاد بالإعلان عن مبادرة لوقف العنف من داخل السجون تكللت بقيام الكثير من قادة هاتين الجماعتين بمراجعات فقهية تؤكد رفضهم مبدأ العنف وخطاب تكفير الحاكم والمجتمع، هذا في الوقت الذي تنامى فيه نفوذ جماعة الإخوان المسلمين في الشارع السياسي المصري، وتعاطى الكثير من المراقبين معها بصفتها الخصم الأقوى للنظام المصري في الشارع، ما استوجب تغييراً في استراتيجيه وخطاب التيار السلفي المتشدد والنظام، على حد سواء، وهو تغيير ساهمت في بلورته الطبيعة المرتبكة وعدم وضوح الموقف السياسي لكليهما.

فالتيار السلفي كرس بمثل هذه الفتوى الأخيرة بقتل البرادعي والقرضاوي منطق تاريخانية الفتوى والذي يؤكد الطابع البراغماتي لفتاوى هذا التيار. ففتاوى التكفير وإهدار الدم التي كانت تطاول الدولة وقياداتها في عهد الرئيس السادات وخلال العقدين الأول والثاني من عهد مبارك أصبحت الآن من نصيب معارضي تلك الدولة، ما يعني أن الفتوى انقلبت من النقيض إلى النقيض لتتماشى مع سياقات وملابسات سياسية مختلفة تعبر عن طبيعة علاقة ذلك التيار بالنظام وبدافع أكيد من مصلحة يسعى هذا التيار إلى تحقيقها.

أما النظام فقد وجد نفسه ممزعاً بين إشكاليتين أساسيتين: الأولى إشكالية اتساع الفجوة بين الطابع المدني والديموقراطي لخطابه السياسي وبين حجم الحريات الممنوحة للقوى السياسية والجماهير على أرض الواقع، وهي إشكالية تفرض عليه استحقاقات لحلها كإلغاء القوانين المقيدة للحريات وعلى رأسها قانون الطوارئ وقيام الدولة بإحداث نقلة نوعية على صعيد قضايا وملفات كتداول السلطة وحقوق الإنسان. أما الثانية فهي إشكالية وجود تنظيمات سياسية ذات طبيعة دينية على رغم إصرار النظام على هذا الخطاب المدني، ويتمثل أبرز استحقاقاتها في ضرورة إدماج الإسلاميين المعتدلين في اللعبة السياسية من خلال حل المعضلة الأهم في الحياة السياسية المصرية، ألا وهي معضلة جماعة الإخوان المسلمين، بل السماح لتجارب جديدة كتجربة حزب الوسط بأخذ دورها في المشاركة في الحياة السياسية. ومن ثم، فإن تحلل النظام من الأعباء والاستحقاقات المطلوبة لمواجهة كلتا الإشكاليتين والتغيرات التي طرأت على علاقته بالتيار السلفي منحت شيوخ هذا التيار السياق الملائم لإصدار فتوى كهذه تهدف في الأساس لإرضاء الدولة بإرهاب معارضيها من دعاة الدولة المدنية وسحب بساط الشرعية الدعوية والسياسية كذلك من تحت أقدام جماعة الإخوان، ومن ثم إضعاف شعبيتها، ما يصب في النهاية في مصلحة هذا التيار الراغب في الهيمنة بمفرده على الفضاء الديني ضارباً فكرة المواطنة وحق المشاركة السياسية في الصميم بفتواه التي لم تفرق بين معارض ليبرالي علماني كمحمد البرادعي ومعارض إخواني كالشيخ يوسف القرضاوي. ويعني هذا إجمالاً أن إصدار فتاوى من هذه النوعية جاء ليطرح السؤال من جديد حول مدى قبول الدولة المصرية مبدأ مغادرة مرحلة الحريات العرفية التي تستمد شرعيتها من سماحة الحاكم ولا تخرج عن إطار لعبة التوازنات بين الدولة والنظام من ناحية، وبين مختلف القوى السياسية سواء كانت دينية أو علمانية من ناحية أخرى، وقبولها كذلك فكرة إدماج التيار الديني المعتدل في الحياة السياسية. وهو سؤال قد تقطع الإجابة عنه الطريق أمام إصدار فتاوى جديدة من هذه النوعية.