عبدالوهاب بدرخان

هددت quot;القاعدةquot; ونفذّت. بعد اثني عشر عاماً على ولادتها المعلنة، لا نعرف ما هي quot;القاعدةquot; أو مَن هي، على وجه الدقة. لعل قراءتها من خلال استهدافاتها تبقى جزئية أو مبهمة. هي ليست ضد الغرب فحسب، هي مجرد ضدٍّ لكل ما هو سائد. ضدٌ فوضوي، ما بعد فوضوي، بالغ الحقد والتهوّر. حين يتاح له القتل في الغرب يقتل كل ما يعتقد أنه غرب وكل ما يشتبه أنه من فروع الغرب. من هنا تركيزه أخيراً على المسيحيين، لأنهم في نظره غربيون. quot;القاعدةquot; لا تعرف، أو بالأحرى تنكر، تاريخ الشرق مع المسيحية، ولا عجب في ذلك، فهي لا تعرف أيضاً ما هو الإسلام. كل الأديان مرّت بمراحل كانت خلالها أي شيء يمكن تخيله لكنها في النهاية ليست إرهاباً.

غير أن التعصب والحقد والتهور لا تعني بالضرورة الغباء. فـquot;القاعدةquot; لا تضرب في مياه راكدة أو في بيئات مستقرة. أرادت تخريب الأعياد في بعض أوروبا، وحين تطارد المسيحيين في العراق أو في مصر فإنها تصب زيتاً حارّاً على نار متأججة، كما لو أنها باتت واثقة بأنها أشاعت quot;ثقافةquot; متلقية ومتقبلة ومتجاوبة. إنها تحاول الإيحاء بأن لها قضية تدافع عنها وتكافح من أجلها، وعلى رغم أن أحداً لا يصدقها ولا يراهن عليها إلا أنها أتقنت مخاطبة الحساسيات الملتهبة، بغضّ النظر عمن ألهبها. ووسط الجمود أو الانسداد تبدو كأنها اللعبة الوحيدة التي تواصل أجندتها وتفرضها حتى على الذين لا عمل لهم سوى محاربتها.


تفيد تجربة العراق بأن quot;القاعدةquot; أداة باتت أكثر تعقيداً مما كانت قبل عقد من الزمن، لم تعد مبرمجة لهدف واحد واتجاه محدد وإنما آلة قتل تتكيف مع كل الفصول. قد تكون مع quot;المقاومةquot; ضد الاحتلال بمقدار ما يمكن أن تستهدف أبناء البلد. قد تقتل من طرفي النزاع على النحو الذي يفعله أي جهاز إسرائيلي لمجرد إشعال الفتنة والاستفادة منها، وقد تُستخدم من جهات أخرى تنتمي إلى دول استوعبت خططها وراحت تتمثل بها حتى أنها تصدر بيانات باسمها، ولا ترفض quot;القاعدةquot; مثل هذا الاستخدام طالما أنه يحقق أحد أبرز أهدافها: أن يسفك الدم باستمرار لتعميم الهوّات أينما كان، خصوصاً مع الغرب ومع الأنظمة والحكومات.
أفغانستان في الثمانينيات: بداية الحقد. مصر في التسعينيات: الاشتباك. العراق في العقد الأول من الألفية: الحرب المفتوحة، لكن مروراً بنيويورك ثم بأفغانستان ثانية، إلى أي مكان. تفجير الكنيسة في الإسكندرية لا يمثل عودة إلى مصر، إنه تذكير بأن الظاهرة لم تفقد صلتها بالأرض، وبأن المواجهات ربما تتخذ شكلاً آخر أكثر إيلاماً. ذاك أن البيئة السياسية لم تتغير منذ الواقعة الأخيرة في الأقصر، بل لعلها ازدادت توتراً وتعفناً، ومعها البيئة الاجتماعية استطراداً. فالأخطر من التفجير ردود الفعل التي أعقبته، وقد عنت أن ثمة معضلة لم يعد تجاهلها يساعد سوى في تأجيجها. لم يكن متصوراً ولا مسموحاً أصلاً أن تصبح هناك في مصر مسألة طائفية، لكن إذا غدت جزءاً من الواقع فعبثاً تكون المراهنة على quot;الوحدة الوطنيةquot;. في الأساس، طبعاً، هناك الوحدة الوطنية، لكنها لا تتعلق فقط باستبعاد الوباء الطائفي وإنما بمعالجة كل الانقسامات الأخرى التي يعاني منها المجتمع. ففي غمرة الاحتقانات المتزايدة لابد أن الإرهاب المتربص لن يعدم إيجاد الثغرة التي ينفذ منها.

الطائفية في لبنان والعراق حالتان سرطانيتان، أما في مصر فهي ليست مستعصية، لأن الدولة موجودة ويكفي أن تقوم بما عليها من واجبات ومهمات. إذا تركت العلل تتراكم، وإذا أهملت أو تهاونت فهذه مسألة أخرى، لأنها ستغامر عندئذ بتشجيع من يتحداها. ولاشك أن ولغ الإرهاب في المستنقع الطائفي يمثل أحد أكثر التحديات بشاعة، ولن تقوى عليه الذراع الأمنية وحدها، بل ستحتاج إلى كل جهد فردي أو جماعي، وستحتاج خصوصاً إلى تفعيل quot;دولة القانونquot; بما لا يحتمل أي لبس.

صبيحة اليوم الأول من السنة سمعنا وقرأنا كل الأوصاف للفعل الشنيع، المفزع، المؤلم، الخطير والكبير، الإجرامي، المستهدف لمصر برمتها. وقيل لنا إن العبوة صنعت محليّاً لكن عناصر خارجية وراء الجريمة. قد يحتاج الأمر إلى أكثر من تعقب الفاعلين، فالإرهاب استهدف ما اعتبره حلقة ضعيفة. ما كان لهذا الخلل أن يحصل. أما الآن فقد انكشف. ومع ذلك يبقى الرهان على مصر لهزم الإرهاب وتجاوز هذه المحنة.