محمد عيادي

رغم تزايد الأصوات الإسبانية المطالبة بإلغاء laquo;الاحتفالraquo; بسقوط غرناطة، تصر بلدية المدينة على تنظيم احتفال رسمي وشعبي في الثاني من يناير كل عام، الذي يصادف تاريخ سقوط مملكة غرناطة ونهاية الزمن الأندلسي عام 1492م الموافق لـ21 محرم 897هـ، وجعلته يوم عطلة حيث ينطلق الاحتفال ndash;الذي يستغله اليمين المتطرف لرفع شعاراته المعادية للمهاجرينndash; من مقر البلدية ويجوب بعض شوارعها محاطا برجال الأمن والجيش، إلى أن يصل للكنيسة التي دفنت فيها الملكة إيزابيل وزوجها الملك فرناندو اللذان سقطت على أيديهما مملكة غرناطة.
ولئن كان اليسار في شخص أحد أعضاء الحزب الاشتراكي هو من أعاد خلال الثمانينيات من القرن الماضي -خلال رئاسة الحزب لمجلس بلدية غرناطة- الحياة لحدث سقوط المدينة وطرد المسلمين بعدما طواه النسيان أو كاد، فإن اليسار تراجع عن ذلك الموقف فيما بعد، لكن الحزب الشعبي اليميني بالمقابل زايد عليه عندما استلم رئاسة البلدية، فجعل من يوم 2 يناير يوما وطنيا ترفع فيه الأعلام الإسبانية والشعارات العنصرية ضد المهاجرين.
ووسعت شوفينية الحزب المذكور في السنوات الأخيرة الجدل خارج غرناطة لينتقل لمدن إسبانية أخرى كمالقة وألميريا وإشبيلية وغيرها، وكلها مدن يقطنها مهاجرون غالبيتهم من المغرب العربي بشكل عام.
ووعيا منها بالأبعاد السلبية للاحتفال المذكور، سعى عدد من المنظمات الإسبانية ومنذ سنوات لإيقافه وإلغائه، ونظم عدد من الوقفات الاحتجاجية على النعرة الطائفية والعنصرية، وقامت بفعاليات مضادة داعية للتسامح والتعايش الحضاري، ومن بين هذه المنظمات: laquo;رابطة حقوق الإنسانraquo; و laquo;جمعية الشعب الأندلسيraquo; ومنظمة laquo;غرناطة المفتوحة من أجل التسامحraquo;، وظلت هذه الأخيرة لمدة 16 عاما تطالب بإلغاء الاحتفال السيئ الذكر لتكريسه منطق صراع الحضارات، ونشره ثقافة كراهية الأجانب، واقترحت بالمقابل الاحتفال في غرناطة بيوم 26 مايو، إحياء لذكرى إعدام أبرز الشخصيات الغرناطية التي ناضلت ضد الاضطهاد والاستبداد، ماريانا بينيدا (26 سنة،) يوم 26 مايو عام 1831 في عهد الملك فرناندو السابع.
لكن اليمين رفض الاقتراح وأصر على الاستمرار في الاحتفال برفض الآخر ودينه وثقافته، والتنكر لإسهاماته الحضارية الكبيرة بشهادة مفكرين وباحثين كبار غربيين قبل غيرهم، وأصر على الاستمرار في الاحتفال بنقض العهد وخيانته، ذلك أن آخر ملوك غرناطة، أبوعبدالله الصغير، وقّع قبل تسليم المدينة للملك فرناندو بعد 9 أشهر من الحصار معاهدة ضمت حوالي 60 بندا وقذع عليها البابا في روما، تعهد فيها فرناندو بأن يأمن المسلمون على أنفسهم وأموالهم، وأن يتمتعوا بحرية إقامة شعائرهم، وصيانة حرمة مساجدهم وغيرها من البنود التي ضرب بها عرض الحائط بعد توقيعها بأيام، وبدأت محاكم التفتيش جرائمها وتعذيبها ضد المسلمين واليهود -التي تشيب لذكرها وتفاصيلها الولدان- فقتل من قتل وسجن من سجن، وتنصر من تنصر حفاظا على حياته، ووجد الفارون من ذلك الجحيم في الدولة المغربية والدولة العثمانية الملجأ وبر النجاة والأمان.
وكان هدف محاكم التفتيش التابعة للكنيسة واضحا: إلغاء الإرث العربي الإسلامي من إسبانيا، وتدمير الآثار الأندلسية في النفوس والعقول، وبكل طرق الترهيب والتنكيل.
ورغم أن موقف اليمين الإسباني وتشجيعه -بخلفية سياسية- على الاحتفال السيئ الذكر ينكأ الجرح الأندلسي، لكنه لا يجب أن ينسينا ثلاثة أمور مهمة:
الأول، أن هناك أصواتا إسبانية عاقلة ولها اعتبارها، ناضلت ولا تزال تناضل ضد ذلك الموقف العنصري وتحاصر تداعياته، وفي مقدمتها رئيس الوزراء ثباتيرو الذي دعا لتحالف الحضارات وترجم ذلك عمليا باحتضان مدريد المؤتمر الأول لتحالف الحضارات برعاية ثلاثية (الأمم المتحدة وتركيا وإسبانيا)، وشارك بخطاب نوعي لما طالب بترجمة مفهوم تحالف الحضارات لمنظومة قانونية تؤسس لسلوكيات عملية لهذا التحالف ولا تبقى مجرد شعارات.
والحاجة ماسة في العالم العربي، وتحديدا على مستوى المفكرين والعلماء والساسة، إلى تشجيع هذا المنحى والعمل على تقويته، ومحاصرة التيار الصدامي وتلامذة صمويل هنتنغتون ونظرية laquo;صراع الحضاراتraquo; بمختلف انتماءاتهم الدينية وألوانهم الطائفية.
الثاني، أن نظرة عامة لواقعنا العربي والإسلامي تشير إلى أننا لم نستوعب بشكل كاف دروس سقوط غرناطة وسقوط الأندلس ككل، مما يتسبب في مزيد من الضعف والتمكين للخارج وضغوطه في ظل عولمة كاسحة، فالخلافات بين الدول العربية والإسلامية فوتت على الأمة درء مفاسد عديدة وجلب مصالح كثيرة وعلى رأسها إنشاء تكتل سياسي واقتصادي حقيقي وقوي له وزنه المعتبر في المنتظم الدولي، وقادر على معالجة مشاكل مكوناته بتجرد وموضوعية، والدفاع عن قضايا الأمة الكبرى ومقاومة الغطرسة الإسرائيلية والتهامها لفلسطين وحقوق الفلسطينيين.
إنني أخشى بعد سقوط الجزء الأكبر من فلسطين تحت الاحتلال الإسرائيلي ومعاناة الجزء المتبقي من عربدته ووحشيته، أن نستيقظ يوما ndash;لا قدر اللهndash; على خبر سقوط المسجد الأقصى وانهياره بدلالته ورمزيته الدينية الكبيرة في ظل صمت عربي وإسلامي، وسكون لا تحركه محاولات من هنا ونداءات من هناك تنبه لخطورة مشاريع تهويد القدس وهدم معالمها الإسلامية، ومسخ هويتها الحضارية.
الثالث، أن الأجيال الصاعدة -للأسف- لا تتوفر على معرفة واعية بتاريخ أمتها العربية والإسلامية ومحطاته المفصلية، بإيجابياته وسلبياته، ولا يتعدى ما تلقته في الموضوع laquo;سندويتشاتraquo; سريعة وخفيفة، لا تؤهلها للاعتبار به والاستفادة الإيجابية منه، وهذه نتيجة طبيعية لتحول الأجيال الصاعدة من جهة لحقل تجارب لأنظمة ومناهج تعليمية متقلبة وأحيانا متناقضة، فضلا عن أن تلك المفروضة عليه مهووسة بالاستجابة لمتطلبات سوق الشغل، وغير مهمومة بإنتاج أجيال عارفة بتاريخها وواعية بحاضرها ومسؤولة عن صناعة مستقبل أمتها بشخصيتها الحضارية المميزة والإيجابية، عصية على المسخ والاستلاب، قادرة على التنافس الحضاري، لا تعاني من مركب نقص، ومستعدة للتسامح بقناعة راسخة على قاعدة شروط معقولة وعادلة للعيش المشترك بين بني البشر باختلاف دياناتهم وأعراقهم وألوانهم، وليس من باب الضعف والسقوط.