عمر عبد العزيز

ليس من المستغرب أن تتّسم المسألة السودانية بقدر كبير من التشعب والتعقيد، وذلك استناداً إلى طبيعة السودان وموقعه الجيوسياسي، ومجاورته لسلسلة من البلدان العربية والإفريقية، واعتقاد صُناع الفوضى الخلاقة أن السودان يمكنه أن يكون لقمة صائغة لمطامع غامضة، تقدم نفسها على طبق الديمقراطية وحقوق الإنسان. تلك الحقوق التي تنتهك بفداحة بالغة من لدن سدنة النظام الدولي الجديد.

ليس من الغريب أن تكون المعادلة السودانية في قلب أولويات المخططات الغامضة في الشأنين الإقليمي والدولي، ولا نسعى من هذا التعميم إلى تخليص أنفسنا كنخب سياسة عربية، من تحمل مسؤولية التخلي الطوعي عن أدوار كان ينبغي أن نُباشرها منذ وقت طويل، وخاصة تلك النخب العربية القابعة في سدة الحكم في غير بلد عربي. وفي المقابل، لا يمكن تبرئة ساحة دول الجوار الإقليمي بشقيها المتكاملين عربياً وإفريقيا، فالجميع تبارى على خط الفُرجة، والمراقبة السلبية لما يجري في أقاليم السودان مترامية الأطراف، وكأنهم بمنأى عن العواصف المحتملة.

ومن سخريات القدر أن ينخرط فرقاء الساحة المحلية في إدمان الاستقطابات غير الحميدة، على حساب القضية المركزية. وفي هذا الباب أُشير إلى الحركة الشعبية التي استمرأت التنازلات الإجرائية عن مقولات مؤسسها الراحل جون قرنق، وهو الذي كان يؤكد دوماً على السودان الكبير المُتعدد. تلك النخب الجنوبية استبدلت الأدنى بما هو أعلى، وتماهت سلبا مع النزعة الشعبوية غير الرائية لما وراء الآكام والهضاب.

أنصار الحل بالانفصال، ينسون أو يتناسون أن نموذج نيفاشا لن يوفّر لهم غطاءً مستقبلياً، يؤمن تمثيل كافة المكونات الاجتماعية في الجنوب، خاصة إذا عرفنا أن نيفاشا خرجت من رحم أزمة مستديمة، وتوخّت أن تكون عتبة انتقال افتراضية. ولم يكن بوسعها استيعاب رؤية جديدة شاملة تخص عموم الوطن السوداني الكبير، فبدت نيفاشا كما لو أنها laquo;تُشرْعنraquo; لكونفدرالية فولكلورية، تحولت تباعاً وبقوة دفعها التعبوي، ودعم الأميركان، والدين السياسي الميكيافيلي، إلى معادلة سياسية كبيسة.

وفي المقابل، لم يستوعب بعض الأطراف أن نموذج الوحدة ليس حكراً على واقع الحال الراهن، بل يمكنه أن يتناسب مع قدر كبير من استيعاب وتمثل موروث التاريخ والجغرافيا، وعلى قاعدة دولة اتحادية تعددية، تضع في الاعتبار مكونات الثقافة السودانية، بتعددها المُوحد، ووحدتها المُتعددة.

تلك الثقافة التي تمثل قلب المعادلة في الوشيجة laquo;العرب إفريكانيةraquo;، كما تمثل نموذجاً ساطعاً لمعنى التعايش والتنوع والتسامح.

تسير الأمور قدماً صوب منطقة غائمة رمادية، ولا يبدو في الأُفق أن منطق القراءة المتأنية الحكيمة يأخذ مجراه بثبات، فالجعجعة والغلواء سيدا الموقف، وما يجري من تداعيات سلبية على خط الجنوب، يذكرنا بما كان من أمر الاتحاد السوفيتي ودول أوروبا الشرقية، التي تنازلت وفق نظرية السقوط الحر، والتماهي السلبي مع وحشية الرأسمالية الأميركية، مُمنيةً نفسها بالنعيم الرأسمالي المقيم، حتى إذا حصحص الحق وتحولت إلى بؤر للتوتر والجريمة والتردي الاقتصادي، تراجعت إلى الوراء، واكتشفت أن الصيغة الإنسانية التكاملية التي كانت تجمعها بروسيا السوفيتية، أجدى ألف مرة من التشظّي الحاصل والتردي الماثل.

من يقرأ معنى التاريخ سيكتشف دون أدنى ريب، أن الوحدة ليست نقيضاً للتنوع، وأن المِثال في سماء الثقافة والتعايش والنماء، يكمن في معادلتي الوحدة والتنوع بوصفهما وجهين لعملة واحدة.

يُمثل السودان هذه الحقيقة التي تتأبّى على العوابر، وسنرى في مقبل الأيام أن خروجاً سافراً عن نموذج التاريخ والجغرافيا، المُصاغ بحكمة القرون وكيمياء التفاعل الخلاق، ليس مخرجا لأحد.

وبهذه المناسبة فإنه ليس عيباً أن نعترف بأخطاء النخب السياسية الشمالية تجاه الجنوبيين، على مدى عقود خلت، ولسنا بصدد تبرير تلك الأخطاء، لكن روح الاستقطاب وتفعيل العصبية الضيقة من قبل نخب جنوبية بذاتها، ينطوي على تعدٍ مؤكد على الجنوب والشمال معاً، بل على السودان التاريخي، وريث العبقرية المشهودة في أصل وجوهر النواميس الضابطة لحياة الناس وسلوكهم.