المطران جورج خضر
لا إمكان لأحد أن يعرف من يموّل قتل المسيحيين في الشرق. الأمر على ضخامة وسياسة بحيث لا يقنعني ان هذه الجرائم يقوم بها أبناء الشارع يكفرون المسيحيين ولا يطيقون وجودهم. كما ان لا شيء يقنعني ان هذه الجرائم مجرد جرائم سياسية. هي خليط من سياسة لا أعرف طبيعتها وعمقها وبغض ديني واضح. ان ترد الأمر الى مجرد تحرك سياسي لا كراهية دينية فيه موقف سذاجة. كذلك ان ترد الأمر الى غضب ذي مصدر ديني لا يقنع. النفس الغاضبة لا تعبر عن هياجها جماعيا ما لم يحركها مدبرون أذكياء عائشون بالغضب أو بالسياسة أو بهما كليهما.
لا تكفيني كلمة تطرف أو عبارة حركات متطرفة. دائما كنا نعرف التطرف على مستوى الفكر كلاما أو كتابة ولكن هذا الهياج ما كان مدخلا الى الإبادة الجماعية. كان الناس يتساكنون حتى الصداقة ويظلون على آرائهم في ما يتعلّق بالديانة الأخرى ويحب المرء فيها ما يراه قابلا للحب ويقبل على ما يقبل ويهمل ما يهمل ولا يؤدّي هذا الى شجار ولا الى خصومة شخصية.
نحن اليوم في حالة هبوط خلقي يفسر وحده النحر الذي يذوقه المسيحيون من العراق الى مصر واذا اتهمنا ان لإسرائيل ضلعا في المؤامرة أفليس من الضعف الخلقي ان يسلم هؤلاء الناس لها بلا رعاية ولا هداية. واذا غابت عنهم الهداية فحقنا جميعا ان نذكر المسؤولين عنهم بضرورة إحاطتهم بالهدى لئلا يعبثوا بالأرض ومن عليها ويتفشى أذاهم في الدنيا كلها ويبقى الموت وحده لغتهم. نحن من اجل سلامة عقولهم وقلوبهم لا نرضى لهم نفوسًا مجرمة اذ سنقول لهم دوما ان الإله الذي ندرك رحمته يحبهم كما يرحمنا وسنبقى نرفع شأنهم وندعم عزتهم ونريدهم على أرقى ما يكون عليه الإنسان المتحضر لنتعايش بالرفعة ولا يبقى احد من البشر تحت رحمة المجانين.
القتل الجماعي ليس مسألة داخلية حتى يقال لحبر من الأحبار كبير الا دخل له في التعدي على مؤمنين مجتمعين للصلاة. هل إبادة أقوام بسبب دينها شأن داخلي في بلد من البلدان ام هو فعلة إجرامية يقضي الضمير باستنكارها. والبلد لا يصبح بلدا سليما الا اذا تناغم مع الداعين الى حفظ الوجود. الى اين نحن ذاهبون بالمقاييس التي ورثنا منذ بدء الحياة الحضارية؟
bull; bull; bull;
السؤال الذي يطرح نفسه بداهة هو لماذا استرخاء السلطات المصرية أمام استفحال الإجرام. هل الحكم مشلول حتى الخوف؟ الخوف ممن والأقباط شعب سلس، طيب، متمسك بطابعه الوطني تمسكا شديدا، ورع، مذهلة تقواه، ممحو من الوجود السياسي لا يُنتخب (بضم الياء) منه احد. القتل ليس مرده اذًا الى عيب في المسلكيات القبطية، الى ضعف في الولاء للدولة. لا حافز قابلا للتحليل السياسي الداخلي.
السؤال المطروح عليك في كل يوم هو هذا: هل يمتد هذا الذبح الى بلدان عربية اخرى فيها مسيحيون؟ الجواب الذي اميل اليه هو اني لا اخشى مذابح في لبنان وسوريا وفلسطين التاريخية مصدرها اهل البلد لأنهم يرتضون بعضهم بعضا بكل قناعة ويؤمنون بأنهم متكاملون حضاريا وموحدون معاشيا ويحسون انهم محتاجون بعضهم الى بعض وان اذواقهم الحياتية متقاربة جدا حتى التوحد. جلاؤنا أو اجلاؤنا لا ينفع احدا.
مع ذلك ظني ان ثمة إمكانا لوجود قوى رهيبة متعاونة أو متلاقية ضدنا في وحدة الهدف أعني في الأقل تقزيمنا. الأذكى بين هذه القوى اسرائيل وعندها كراهية للمسيحيين خاصة صريحة في الأدبيات الصهيونية.
لا تكفي تدابير الوقاية للمصلين المسيحيين تحميهم عند اداء شعائرهم. هذه تدابير ممكن اختراقها ولا تستطيع الدول ان تجند الكثير من جنودها في سبيل هذه الحياة. كيف يصلي المواطن ان شعر بالحماية طوال صلاته؟ وهذا الخوف يثبت المسيحي انه يرث طمأنينته من الدولة أو من المواطن غير المسيحي ولا يستجديها لكونه مواطنا من الدرجة الاولى.
يجب ان ينتهي العالم العربي من شعوره بوجود اكثرية وأقليات والأهم ان يموت عند المواطنين جميعا الشعور بأن فئة تحمي فئة. لم يوكل الله احدا بأحد. نحن جميعا متعاضدون متكافلون وإخوة ليس فقط بتفويض من الله ولكن بحق انساني ذي طبيعة مدنية لا دخل فيها لدين. الإنسان إنسان يولد مساويا للإنسان الآخر ويحاكَم اذا اعتدى عليه ويعتدي اذا ميّز نفسه عن الآخر ويدان أدبيا اذا جعل لنفسه كرامة تفوق كرامة الآخر.
bull; bull; bull;
إزاء خطر اهل هذا الشارع على أهل الشارع الآخر لا بد لرجال الدين من كل فريق ان يرشدوا ابناء دينهم الى ما يقوله الله لهم بحيث يفهمون جيدا ان القتل مصيبة كبيرة والمعصية تدفعنا الى استمرارها وتعرضنا لإفناء الآخر.
أدعيتنا اليوم من اجل احبائنا في العراق وفي مصر كي يثبتوا في ايمانهم ويرجوا الى الله ان يجعل في قلوبهم الغفران من اجل الذين ذبحوا اهلهم لأنهم ما كانوا يعلمون ماذا فعلوا. انا اضم صلاتي الى صلاتهم كي لا يقيم الرب على قاتليهم خطيئة. هذه هي وصية الرب ونحن بها مقيدون. كذلك نرجو الى إلهنا ان يمنع كل ذابح من الذبح كما منع ابراهيم من قتل ابنه اسحق.
كل ذبيح من اجل الله يشهد للحق ويقيم في المجد الإلهي. لقد صاروا نورا لنبقى عازلين أنفسنا كليا عن البغضاء ولكن نتكلم عاليا عن عدالة قضيتنا وقضايا الآخرين ليصل الناس جميعا الى حرية ابناء الله في صفاء القلب. ألم تسمعوا قول الشاعر: quot;ما كان الصليب حديدا بل خشباquot;؟ نحن لا نعرض أنفسنا للصليب. نقبله اذا فرض علينا ولا نتذمّر. لكنا لا نرفض من احد خدمة يبديها لنا محبة بنا وحفاظا على شهامته. وكما نريد ان يرفع الظلم عنا نسعى ان نحرر كل مظلوم. نحن حلفاء كل المقهورين في الأرض. نحن معنويا مقتولون مع المقتولين ومناشدون العارفين والاتقياء من كل دين ان يحثوا العارفين والأتقياء من الدين الآخر ليظلوا اخوة، ويشعروا انهم واحد في انسانية راقية تبتغي الخير للجميع.
المطران جورج خضر
التعليقات