السودان والترابي.. من يشبه الآخر؟


علي الظفيري

العرب

هل بقاء السودان موحداً أفضل؟ أم أن انفصاله لشمالٍ وجنوب خير للطرفين على حد سواء؟
هذا سؤال شائك، ويحتاج إلى طرح افتراضات كثيرة ونقاشات فيما مضى وما هو قادم، وذلك للتمكن من الإجابة على أيهما أفضل للبلاد وأهلها، لكننا نستطيع ببساطة ودون الدخول في التعقيدات النظرية أن نميل وبارتياح كبير إلى القول: إن النموذج الذي يدار بنجاح وكفاءة هو النموذج الأفضل للبلاد، بمعنى ليست الوحدة بأي شكل من الأشكال وبكل عيوبها نموذجا جيدا لإدارة السودان، الوحدة المعبأة بالبغض والتناحر والظلم والاستغلال البشع والتباينات التي لا تنتهي بين الشريكين، كما أن الانفصال لمجرد الانفصال ليس المخرج لإنهاء هذه الأزمة التي خلفها زمن من الاستعمار لوادي النيل، وكرّسها تعامل فوقيّ شمالي على الجنوبيين متجاهلا خصوصياتهم الدينية والثقافية، الانفصال لن يقدم لنا دولة جنوبية مثالية يتساوى فيها أهل الجنوب تحت مظلة جامعة، الانفصال لمجرد الانفصال وتحت الشعارات الانفصالية سيجعل الجنوب يواجه المصير الذي واجهته مشاريع التحرر العربي مطلع القرن الماضي، إن الانفصال الأسير لفكرة الاستقلال وحدها مدفوعا بالضغط الأميركي واستثمار الضغط الموجه على الشريك في الشمال لا يكفي وحده لبناء دولة جنوبية تحقق ما لم يتحقق بالوحدة، في ظل نيل الجنوبيين معظم ما يريدون بعد اتفاقية نيفاشا، ولم يبق سوى المظاهر الرمزية لدولتهم الجديدة.
الأسبوع الماضي قابلت الدكتور حسن الترابي، والمقابلات الصحافية مهما كان حجمها وأهميتها لا تكفي لتناول قضية شائكة ومعقدة مثل قضية السودان ومستقبله، والحديث مع الترابي حديث ممتع ومثير، فالرجل بخلاف مكانته الفكرية في العالم الإسلامي وأهميته الكبيرة على صعيد العقل الإسلامي، هو أيضا السياسي السوداني الحاضر في كل تفاصيل المشهد السوداني المعاصر، فقد كان الترابي رجل الإسلام السياسي بامتياز كبير في السودان منذ منتصف الستينيات الميلادية، والرجل الذي اكتسب العلم الشرعي منذ نعومة أظفاره وتوج معرفته بالعلوم الحديثة في بريطانيا وفرنسا وأتقن لغاتها الكثيرة، وهو أفضل من استضافته السجون السودانية، من حيث الزمن الطويل الذي قضاه فيها، والعلم والإنتاج الغزير الذي خرج به منها، ولم يكن الترابي يخرج بمعرفة مضافة فقط كل مرة، بل بمشروع ورؤية أسهمت دائما في تغيير قواعد اللعبة في بلاده.
وفي مقر إقامته في الدوحة سألته: ألم تتعب يا شيخ حسن من العمل السياسي؟ أجاب قائلاً: إنه في بلد اجتماعي مثل السودان ليس من مكان مثالي للكتابة والتأليف سوى السجن! أدركت أن الرجل يحمل لنا جديدا بعد الانفصال، فإما أن ينجح للمرة الأخيرة، أو أن يفشل!.
الانقلابات الكثيرة التي مرّ بها السودان أصابت وعيه السياسي بعلة كبيرة، ومجمل الصراع يتركز حول السلطة والتفرد بها، والسودان -على صعيد البنية الحزبية- بلد يتميز عن كثير من أقرانه في العالم العربي، فهناك تأسيس لأحزاب سياسية كبيرة ومتعددة، ولو أن تجربة واحدة من تجارب حكم البلاد تمتعت ببعد النظر والقدرة على استيعاب الاختلافات، لشهدنا حالا سودانية غير هذه الحال، تخيلوا أن حسن الترابي يستقبل اليوم انفصال البلاد بكل هذه الأريحية! بل ويقول: إن السودان يمكن أن ينقسم لثمانية بلدان، وإن السودانيين ليسوا قوماً بل أقواماً مختلفة وهو ما يؤسس لهذا التفكك! أليس هذا القول دليلاً على علة البلاد، ألا يخالف هذا الأمر أبسط مبادئ الدولة الحديثة القائمة على مكونات مختلفة، فلماذا يقول الترابي ذلك؟ انتقاماً من السلطة القائمة التي سلبت السلطة منه، هكذا يفكر الترابي بعد خمسة عقود من العمل الفكري والسياسي، وهكذا يفكر مؤلف laquo;قضايا الوحدة والحريةraquo;!.
من هنا، ليست مشاكلنا قائمة على الوحدة أو الانفصال، الاندماج أو الفرقة، فالمعضلة الرئيسة التي تواجهنا هي الإيمان بوجود جماعي وإدارة جماعية وأهداف جماعية، الإيمان بوجود اختلاف في كل شيء، ولا أمر من شأنه تحويل هذا الاختلاف إلى قوة وميزة مضافة سوى العمل المؤسسي لا الفردي، وبالديمقراطية التي باتت أفضل أشكال إدارة المجتمعات الإنسانية، بعدها ترتسم الحدود والأشكال النهائية لنا بما يتلاءم مع منطق الواقع، لا بفعل السلطة التي لا تمثل سوى نفسها، وفعل اليد الأجنبية التي لم يستطع القمع والتسلط قطعها حتى الآن.

اليوم... بداية مرحلة laquo;السودنةraquo;

منصور الجمري

الوسط

اليوم سيختار شعب جنوب السودان في استفتاء مصيري نشهده لأول مرة في عصرنا الحالي، ما من شأنه أن يؤدي إلى انفصال جنوب البلاد عن شماله، وهذا الاستفتاء يستمر أسبوعاً، لكنه يأتي بعد أكثر من خمسة عقود من تراكم المشكلات والأزمات السياسية من دون حل، وانتهت بتوقيع اتفاق السلام في 9 يناير/ كانون الثاني 2005، الذي قرر أن ينتهي اليوم بتحديد مصير السودان، وتبدأ مرحلة سياسية جديدة في منطقتنا. هذه المرحلة السياسية لها عنوان مختلف عن laquo;اللبننةraquo; وlaquo;العرقنةraquo; وlaquo;الصوملةraquo;، فهي كما أشار الكاتب عادل مالك في صحيفة laquo;الحياةraquo; أمس بـ laquo;السودنةraquo; التي تنطلق مع laquo;الشهر الأول من بداية العقد الثاني من الألفيةraquo;، وهذه laquo;السودنةraquo; إنما هي شرعنة دولية لحق الانفصال والتقسيم في البلدان العربية.

في النظام الدولي القديم كان عدد من الدول الكبرى تتدخل في شئون الدول الأقل قوة تحت حجة حماية الأقليات الدينية والإثنية التي تعيش كأقلية داخل مجتمع ما، وكان ذلك المدخل باباً واسعاً لعهد الاستعمار الذي بدأ بالانحسار مع النظام الدولي الذي نشأ بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية. أما اليوم، فإن هناك مبررات أخرى أنتجتها مرارات السنوات والعقود العجاف التي نمت في بلداننا، وأصبحت الآن تجد لها ما يحركها ويبرمجها باتجاه التقسيم والتفتيت، نحو مستقبل غير معلوم.

الانقسام السوداني يحدث في ظل نظام أنتجته الحركة الإسلامية السودانية، وكان قد وصل إلى الحكم عبر انقلاب (ثورة الإنقاذ) في يونيو/ حزيران 1989 نفذه ضباط تابعون للإخوان المسلمين بقيادة الدكتور حسن الترابي، الذي تزعَّم الجماعة منذ ستينيات القرن الماضي، ودخل في عدة تجارب للمشاركة في الحكم، إلى أن وصلت قناعة الحركة الإسلامية بتسلم الحكم عبر جناحها العسكري. ولكن القيادتين السياسية والعسكرية اختلفتا لاحقاً (بعد عشر سنوات من الحكم) في العام 1999، وخرج الترابي من الحكم وعاد إلى معارضة تلامذته وأتباعه.

وفي مطلع 2001 التقى من يمثل الترابي في جنيف مع وفد من الحركة الشعبية لتحرير السودان التي كان يقودها جون قرنق، وأصبح واضحاً أن الترابي كان يسعى إلى الاتفاق مع قرنق، وأن مثل ذلك الاتفاق كان سيأتي على حساب تلامذة الترابي السابقين الممسكين بالحكم في الخرطوم. وعليه تم اعتقال الترابي، وسارعت الحكومة السودانية إلى فتح المفاوضات مع قرنق، ودخلت أميركا على الخط منذ 2002 لرعاية المفاوضات مع الطرفين، نتج عنها اتفاق للسلام الشامل في يناير 2005، وأصبح قرنق حينها نائباً للرئيس، لكنه قتل في 30 يوليو/ تموز 2005 عندما تحطمت مروحيته أثناء سفره من أوغندا إلى السودان، وتسلم من بعده من شارك الحكم في الخرطوم حتى اليوم 9 يناير2011.

من المتوقع أن ينفصل الجنوب عن الشمال، وتبدأ مرحلة laquo;السودنةraquo;... وبذلك، فإن الفشل لا يتعلق فقط بانتهاء مفهوم الوحدة العربية بين الدول، وإنما أصبح يمس وحدة الأراضي الوطنية داخل الدولة الواحدة، ومن المؤسف أن يكون ذلك في عهد تسلم الإسلاميون فيه مقاليد الحكم