عبدالرحمن الراشد


عادة يلجأ إلى تفسير المؤامرة ولوم الغير العاجزون والمهزومون، وهذا هو حال من يريد تبرير انفصال الجنوب السوداني بتعليقه على مشجب المؤامرة. غالبية أهل الجنوب تريد الاستقلال، وسنرى ذلك في نتائج الاستفتاء، فهل يعقل أن كل هؤلاء الناس منخرطون في مؤامرة؟ والبعض منا لا يدرك أن صراع الجنوبيين طلبا للاستقلال ليس تدبيرا وقع البارحة، بل هو مطلب صريح عمره أكثر من خمسين عاما. فهل يعقل أن هناك مؤامرة تعيش نصف قرن من أجل تحقيق مطلب واحد؟ لهذا، فإن انتشار وصم انفصال الجنوب السوداني بالمؤامرة يعبر عن جهل وإهانة لشعب كامل.
وراء اقتناع العرب، الذين يصدقون بأن رغبة الجنوبيين في الانفصال مجرد مؤامرة أجنبية، سببان رئيسيان، الأول أنهم لا يعرفون شيئا عن تاريخ القضية. لم يسمعوا إلا حديثا عن نضال الجنوبيين في سبيل استقلال إقليمهم، ويظنون أنها حالة طارئة، مما يدفعهم للتشكيك في سرعة الحدث، وفي هذا الوقت المريب. ثانيا، لا ننسى أن معظمنا من العرب عاش طوال عمره يردد أناشيد الوحدة والعروبة، ويستحيل في مخيلته أن يوجد من يريد تفكيك أي بلد عربي، وبالتالي فالانفصال هنا لا بد أن يكون مشروعا خارجيا مشبوها.
من المؤكد أن هناك تعاطفا مع الانفصاليين الجنوبيين في الغرب تحديدا، ويحصل الجنوب على الدعم منه، لكن رغبتهم في الاستقلال بإقليمهم والخروج من حكم الخرطوم صادقة وحقيقية وقديمة، دفعوا ثمنها من دماء أبنائهم مئات الآلاف. وقد جرب النظام السوداني فرض حكمه عليهم بالقوة، ورغما عن مشاعرهم، وفشل تماما، حتى جاء اتفاق نيفاشا قبل ست سنوات ليتفق الجميع على مبدأ الاستفتاء وترك مصير الإقليم في يد أهله بعد أن عجزت القوة عن فرض الوحدة.
رغبة السودانيين الجنوبيين في الانفصال يفترض ألا تدفعنا نحو تخوينهم، ودعم الأجنبي لهم لتحقيق انفصالهم أيضا ينبغي ألا يكون هو القضية، لأن القضية الأهم هي قناعتهم ورغبتهم الحقيقية. ويجب ألا ننسى أن الجنوب السوداني، بكل أسف، ينفصل اليوم وهو من أكثر مناطق العالم فقرا وتخلفا. وكان بإمكان النظام السوداني إصلاح أوضاعه لكنه لم يفعل، حتى في السنين العشر الماضية بعد أن أصبح النفط رافدا أساسيا في مداخيل البلاد. لذا، لا تستطيع أن تنتقد الجنوبيين لأنهم حصلوا على التعاطف والدعم من الغرب في الوقت الذي تخلينا فيه عنهم لعقود طويلة. ولو كانت في العالم العربي مؤسسات ذات ضمير حي ومستقل لما رضيت بالسكوت على ما يحدث هناك، وما احتاج الجنوبيون إلى مد أيديهم للأجانب طلبا للمساعدة. لقد حارب العرب طويلا حتى تخلصوا من الحكم التركي، والوضع هنا في السودان ليس ببعيد.
إن التعامل الأخلاقي المطلوب في المسألة الجنوبية السودانية هو الإنساني، وبالتعاطف والتفهم. بعد نضال طويل يحق للمواطنين هناك أن يقيموا دولتهم كما يريدونها، وواجبنا الأدبي أن نعتذر لهم عن الأيام الخوالي التي عوملوا فيها بظلم، لا أن نتهمهم بالتآمر ونصمهم بالتخوين، وذلك لنكسبهم شعبا ودولة صديقة لنا في المستقبل