محمد صادق جراد

تطفو مفردات الموت والتضحيات والقرابين في آيديولوجيات الشعارات العربية وأدبياتها، ونجدها تطغى على مفردات أخرى كالحياة والتقدم والسلام، حيث ترسخت في ذاكرة الفرد في هذه المجتمعات قناعات خاطئة، مفادها أن الأوطان لكي تتقدم تحتاج إلى القرابين والدماء وسلب أرواح أبنائها!
وحسب هذا المفهوم نجد أن الوطن لكي يعيش لا بد من أن يموت شبابه تحت شعار laquo;نموت نموت ليحيا الوطنraquo;.
وهذه المفاهيم والشعارات وجدت الدعم والتأييد من قبل الأنظمة الديكتاتورية التي زرعتها وسخرتها لخدمة ممارساتها التعبوية، وجعلت من الموت شرطا ودليلا على حب الوطن، وربطت بين المواطنة والولاء للقائد أو الحزب، وبقيت الأوطان على مدى العصور تسقى بدماء أبنائها، ولم ترتو ولم تتقدم يوما، بل ظلت تراوح في مكانها وفشلت في أن تهب أبناءها الحياة وتعوضهم عما قدموه من قرابين في طريق العزة والكرامة والسيادة المزعومة.
ومن الجدير بالذكر، أن هذه المفاهيم تجسدت في أدبيات العرب وعبر قصائد الشعراء. وقد لا أجد من يتفق معي عندما أنتقد قصائد ترسخت في ذاكرة الأجيال العربية، ومنها أنشودة:
لبيك يا علم العروبة كلنا نفدي الحمى
لبيك واجعل من جماجمنا لعزك سلما
لبيك إن عطش اللوا سكب الشباب له الدما
ونجد هنا أن لغة الدم والموت تطغى على معاني هذه الأنشودة، ونلاحظ تكرار مصطلح الجماجم في أدبيات الأمة العربية في أكثر من قصيدة، وهي تلك التي تحصدها ممارسات الحكام الخاطئة بزج بلدانهم في حروب غير عادلة مع عدو خارجي مفتعل جعلته السياسات الخاطئة للأنظمة الحاكمة طرفا في حرب تأكل الأخضر واليابس معا، أو عدو داخلي كل ما اقترفه أنه لم يؤمن بفكر الحزب الحاكم. ونريد أن نقول هنا إن ملايين الجماجم التي قدمها العراقيون في الحرب العراقية - الإيرانية، وفي عملية اجتياح الكويت، إضافة إلى الجماجم التي عثر عليها في المقابر الجماعية بعد سقوط النظام الشمولي في العراق في 2003، والجثث مجهولة الهوية التي تبعثرت في شوارع العراق في 2006، كل هذه الجماجم لم تكن كافية لتصبح سلما لعلم العروبة، وبقي العراق بعيدا عن التقدم والرقي والعيش الرغيد لعقود طويلة.
وهنا لا بأس من الاستشهاد بقصيدة الشاعر الكبير الجواهري، وهو يقول:
بلد دعائمه الجماجم والدم
تتقدم الدنيا ولا يتقدم
ردا على شاعر عربي قال البيت نفسه، ولكنه قال عن هذا البلد: laquo;تتهدم الدنيا ولا يتهدمraquo;.. حيث نتفق مع الجواهري في الرأي بأن الدماء والموت لا يساعدان إلا في تأخر الدول، وأن ما يساهم في تقدمها هو عرق أبنائها وإبداعاتهم حين يشعرون بأنهم ينتمون فعلا إلى وطن يعترف بقيمتهم الإنسانية ولا يعتبر المواطن فيه مجرد نسمة أو رقما من الممكن أن يضحى به. وعبر هذه العقود التي عاشتها المنطقة في ظل أعتى الأنظمة في العالم، وجد الإنسان فيه نفسه أمام خيارين كلاهما مر، فإما أن يضحي من أجل قضية لا يؤمن بها ليلفه علم العروبة ويأخذه صوب الموت، وإما يموت ميتة أخرى بعنوان الخيانة العظمى أو التخاذل، حتى صار الوطن كالآلهة التي تقدم لها القرابين، وكالغول الذي يأكل أعزاءنا ويلقي بهم في بطنه ولا يعرف الشبع، مما اضطر أبناؤه إلى مغادرته إلى بلدان أخرى، طلبا للعيش بسلام، بعيدا عن الجماجم والحروب والسجون وكتاب التقارير وقاطعي الرؤوس والألسن.
واليوم، وبعد أن تخلصنا من الأنظمة الاستبدادية التي تعاقبت على حكم العراق، وبعد انتهاء مرحلة الانقلابات والثورات وبداية مرحلة التغيير الديمقراطي، نجد أنفسنا من جديد أمام آيديولوجيات الموت الدينية الضيقة التي ترفعها الميليشيات وعصابات laquo;القاعدةraquo;، تحت شعارات الجهاد وقتل النفس التي حرم الله، لتستمر مسيرة التضحيات لأبناء العراق ولتزيد من ثقل ومرارة الألم من فقدان الأعزاء.
حيث نشهد تنامي ضروب جديدة من الاستبداد الفكري ينمو في الساحة الإسلامية عبر ظهور آيديولوجيات شمولية تفسر الدين بما يتلاءم مع مصالحها لتمنح نفسها شرعية قتل الآخرين ليتماشى فعلها هذا مع آيديولوجيات صناعة الموت التي تمارسها الأنظمة الاستبدادية، مع اختلاف الشعارات والأهداف المعلنة. نريد أن نقول في الختام إن جميع الآيديولوجيات التي تؤمن بأن الأوطان تحتاج إلى القرابين لكي تعيش وتزدهر، قد أخطأت وظلمت أبناءها عندما سلبتهم أرواحهم ولم تهبهم الحياة والأمان والعيش الرغيد.
أما التضحيات التي يقدمها الشرفاء في قضايا عادلة لاسترجاع الحق، فإنها تستحق الاحترام، لأنها تصنع الحياة ولا تدعو للموت من أجل الموت.