صالح القلاب


تكررت في الشهور الأخيرة وتلاحقت المشاجرات العائلية والعشائرية التي تنقلت بين عدد من المدن الأردنية، وآخرها معان والكرك في الجنوب، كما شملت أيضا عددا من الجامعات الحكومية ومن بينها الجامعة الأردنية، التي هي الأكثر عراقة والأقدم من بين هذه الجامعات كلها، وكل هذا أعطى انطباعا بأن الأردن غدا ساحة عنف اجتماعي يحتار حتى علماء وأساتذة الاجتماع في تشخيص أسبابه وأسباب تنقله من مكان إلى آخر في بلد صغير لا تزال تحكم العلاقات بين أهله ومكوناته الاجتماعية صلات القربى والقيم المستمدة من الدين الإسلامي الحنيف ومن الأعراف الراسخة منذ حقب تاريخية بعيدة.
ولعل ما يشير إلى أن العنف الاجتماعي لا هوية جغرافية له ولا يقتصر على الأردن وحده، أنه لدى الشروع في كتابة هذا المقال تناقلت الفضائيات ووكالات الإنباء خبرا عاجلا يتحدث عن أن شابا فاجأ تجمعا سياسيا بمنطقة تاكسون في ولاية أريزونا الأميركية بهجوم مسلح أسفر عن إصابة النائبة عن هذه الولاية غابرييل غيفوردز بجروح بليغة ومقتل ستة آخرين، حيث أشارت التحقيقات الأولية إلى أن إطلاق النار كان عشوائيا وأنه لم يتم التأكد مما إذا كان وراء هذا الهجوم دوافع سياسية أو شخصية أو أنه جاء في إطار العنف الذي غدا ظاهرة متأصلة في الولايات المتحدة وأيضا في معظم الدول الأوروبية الغربية والشرقية.
والملاحظ أن تصاعد ما يعتبر ظاهرة عنف اجتماعي في الأردن قد جاء بينما شهدت بعض الدول العربية، من بينها تونس والجزائر، مظاهرات صاخبة عنوانها استشراء البطالة والخبز وارتفاع الأسعار وحقيقتها، كما يرى كثيرون من الذين تابعوا هذه المظاهرات التي اتخذت طابع العنف الأهوج، هي الشعور بالضيق والإحباط لدى الشباب الناشئين الذين قذفتهم المدارس والجامعات إلى الشوارع ليواجهوا أعباء بعضها يتعلق بالبحث عن العمل والوظائف وبعضها الآخر يتعلق بالتحديات السياسية التي لا تواجه بلدا عربيا بحد ذاته وإنما تواجه المنطقة كلها من العراق في الشرق وحتى المملكة المغربية على شواطئ الأطلسي الشرقية في الغرب.
وبالنسبة للأردن وحتى يكون تشخيص هذه الظاهرة العنفية أكثر دقة، فإنه لا بد من الإشارة إلى أن هذا البلد استقبل منذ قيام إسرائيل على أرض الشعب الفلسطيني هجرتين كبيرتين أضافت كل واحدة منهما أعدادا جديدة إلى عدد سكانه السابق، الأولى في عام 1948 والثانية 1967 وكل هذا بينما أصبح هذا البلد يستضيف رغم شحة موارده، بل رغم فقره، أكثر من نصف مليون شقيق عراقي وأكثر من نصف مليون وافد مصري وأكثر من مائة وثمانين ألفا من الأشقاء السوريين الذين يأتون في مواسم محددة للعمل في قطاعي الزراعة والبناء وفي قطاعات أخرى منها بعض القطاعات التجارية.
وهنا وبهذا الخصوص فإن الأردن بينما كانت بدأت أزمته الاقتصادية التي تعتبر مستفحلة الآن، قد تعرض لموجة هجرة جديدة قوامها نحو نصف مليون من أبنائه الذين اقتلعهم غزو صدام حسين للكويت في بدايات تسعينات القرن الماضي من بيوتهم ومن أماكن عملهم بعد إقامة طويلة في هذا البلد المضياف الذي كانوا قد أصبحوا جزءا من نسيجه الاجتماعي والذي وفر لهم بحبوحة العيش فوجدوا أنفسهم بين عشية وضحاها بلا حاضر وبلا مستقبل وجزءا من مجتمع رغم أنه مجتمع آبائهم وأجدادهم، فإنه غريب عليهم وهم غريبون عليه وهذا كله قد أدى في الحقيقة إلى بعض الاهتزازات الاجتماعية التي لا تزال ارتداداتها تؤثر على المجتمع الأردني.
وهكذا وبينما تضافرت هذه العوامل كلها لتؤدي إلى ارتجاج واضح في المجتمع الأردني، الذي رغم أنه في الأساس مجتمع عشائري تقليدي محافظ، فإنه استطاع استيعاب هجرات سابقة من بلاد القوقاز قوامها الشراكة والشيشانيون والداغستانيون، فإن هذا المأزق الذي تعيشه أزمة الشرق الأوسط والقضية الفلسطينية، حيث لا حرب ولا سلام، قد أثر على الأردنيين أكثر كثيرا من تأثيره على باقي أشقائهم في المنطقة، فبعبع الوطن البديل غدا يشكل كابوسا ليليا يقض عليهم مضاجعهم والخوف المستمر من أن يقذف الاحتلال في اتجاه بلادهم موجة تهجير قسري جديدة في ظل هذه الأوضاع الاقتصادية السيئة جعلهم، وبخاصة الشباب منهم، يتصرفون بطيش ونزق ويلجأون لتفريغ الاحتقانات التي يعانون منها بتحدي هيبة الدولة والاعتداء على رجال الشرطة والأجهزة الأمنية.
وهنا فإنه لا بد من عدم إغفال عامل الهجرة المتواصل من مناطق البادية والريف إلى المدينة وتوسع المدن بالتمدد نحو الريف القريب والبعيد وحتى في عمق الصحارى البعيدة من خلال امتلاك المزارع الجميلة الباذخة وأنه أيضا لا بد من عدم إغفال أنه كانت هناك جامعة واحدة في الأردن، هي الجامعة الأردنية، في ستينات القرن الماضي وأصبح في هذا البلد الصغير الآن أكثر من عشرين جامعة حكومية وخاصة وذلك بالإضافة إلى عشرات المعاهد وكليات المجتمع التي استقطبت المزيد من أبناء الريف والبادية نحو العاصمة عمان والمدن الأخرى الرئيسية ولقد أدى هذا كله إلى اختلالات اجتماعية واختفاء قيم وعادات قديمة لحساب قيم وعادات جديدة أدى استفحالها إلى بروز ظاهرة العنف الفوضوي التي غدت متفشية حتى في المجتمعات البدوية النائية التي من المفروض أنها هادئة ومستقرة وبسيطة.
إن كل هذه الهجرات المتلاحقة الآنفة الذكر وإن كل هذه العمالة الوافدة من بعض الدول الشقيقة وإن تلاشي الطبقة الوسطى على نحو شبه نهائي قد أدى بالإضافة إلى الاحتقانات النفسية المتأتية من انسداد أفق أزمة الشرق الأوسط ومما جرى في العراق ويجري في فلسطين واليمن ودول عربية أخرى إلى نزعة انتحارية تدميرية لدى بعض الفئات الهامشية بين الشباب الأردنيين وهؤلاء هم سبب كل هذا العنف المتنقل بين الجامعات وبين المدن على غرار ما حصل مؤخرا في مدينة معان الجنوبية.
ثم ويجب، ونحن بصدد توخي أسباب ظاهرة العنف الاجتماعي ليس في الأردن فقط وإنما أيضا في كل دول هذه المنطقة ودول العالم الثالث بصورة عامة، عدم إهمال أن بعض الناس قد فهموا laquo;الديمقراطيةraquo; التي وضعت بالنسبة للأردنيين، قيد التطبيق في عام 1989 على أنها ضعف في الدولة ولذلك فقد استغل هؤلاء هذه الحالة وباتوا يتحدون هيبة هذه الدولة وهيبة القوانين من خلال الاعتداء على الأملاك العامة والاعتداء على أفراد الأجهزة الأمنية وأيضا الاعتداء على بعضهم البعض وذلك إلى حد أن اعتقادا أخذ يتعزز ويسود بأن الإنسان العربي لا يحترم إلا القمع ولا ينضبط إلا للأنظمة الشمولية والزجرية وأن الحريات العامة إن كانت تصلح للمجتمعات الغربية، فإنها لا تصلح للمجتمعات العربية.
وهنا، فإن البعض حشد الاستشهادات لإثبات صحة أن العرب بطبعهم لا يخضعون إلا للقمع ولا يحترمون إلا الحاكم الظالم المستبد، يشيرون من قبيل الترويج للتخلص من هذه الديمقراطية والعودة إلى سياسة الكرابيج والقوة، إلى ظاهرة الحجاج بن يوسف الثقفي في زمن الدولة الأموية وإلى حكم كافور الإخشيدي في مصر وإلى أن أهل دمشق الشام كانوا استقبلوا واليا عثمانيا وديعا وlaquo;يخاف اللهraquo; بالاستهزاء واستشراء الفوضى، بينما كانوا يخضعون لآخر في مواصفات جمال السفاح خضوعا كاملا ولم يتوانوا عن التعاطي معه على أساس السمع والطاعة وحقيقة إن هذا غير صحيح على الإطلاق والدليل أن بلدا مثل الهند كانت تعتبر منذ عقود قليلة خلت إحدى دول العالم الثالث المتخلفة قد نمت فيه ثم تجذرت أكبر وأهم ديمقراطية في العالم وبالتالي فإن المؤكد أنه لولا آفة الانقلابات العسكرية التي اغتالت نزعة الحريات العامة في العالم العربي مبكرا لكانت هناك الآن دول تضاهي بديمقراطيتها حتى الدول