شريف عبدالغني
أثناء طبول الحرب التي كان يدقها الإخوة من laquo;فارغي العقولraquo; بالجزائر، ردا على نظرائهم الذين لا يقلون فراغا عقليا في مصر، بسبب التنافس الكروي بين البلدين في ساحة laquo;الشرف والكرامةraquo; للوصول إلى كأس العالم، كان عقلاء الجانبين يحذرون من هذه الفتنة، ويكشفون أن هؤلاء المتعصبين ينفذون سواء بقصد أو دون قصد أهدافا خبيثة للسلطة هنا وهناك، تريد التغطية على سوء الأوضاع الداخلية بشحن الشعبين باتجاه كرة القدم وتفريغ طاقات الغضب الكامن في النفوس نحو جماهير الجانب الآخر. شحن الإخوة الجزائريون آلاف المشجعين -وقيل إن من بينهم كثيرين من معتادي الإجرام وخريجي السجون- إلى معركة laquo;أم درمانraquo; المباركة، ردا على موقعة laquo;القاهرةraquo; التي تعرضت فيها حافلة المنتخب الجزائري للقذف بالحجارة. رد الجزائريون الحجر حجرين وفازوا بالمباراة، كما انتصروا في المعركة الأساسية مع المشجعين المصريين بشوارع الخرطوم، وعادوا مكللين بتيجان النصر إلى بلادهم ليحتفلوا مع زملائهم الذين ظلوا في الداخل لتنفيذ الشق الآخر من الحرب المقدسة بالاعتداء على المنشآت المصرية في أراضيهم. ثم ذهب الجميع إلى جنوب إفريقيا ورجعوا بهزيمتين وخروج من الدور الأول دون إحراز أي هدف.
ومن الجهاد الأصغر دخل الجزائريون إلى الجهاد الأكبر وهو مكابدة الحياة اليومية وصعوبتها، في ظل معدلات بطالة تقدر بحسب الأرقام الرسمية بـ%10 من السكان (35 مليون نسمة)، غير أن منظمات مستقلة تقدر النسبة بنحو %25. ومع تدني الحالة الاقتصادية، تطوع دعاة الفتنة مع مصر باستخدام نفس الورقة بعدما أثبتت نجاحا في المرة السابقة وحاولوا إلهاء الرأي العام بأي قضايا خارجية، فخرج نواب في البرلمان يعلنون بالصوت العالي رفضهم تصالح محمد روراوة رئيس الاتحاد الجزائري لكرة القدم مع نظيره المصري الذي تم في الدوحة بوساطة تستحق الشكر من مسؤولي الرياضة القطريين، وطالبوا علنا باعتذار مصري واضح وصريح متجاهلين المبادرات والاتصالات الودية بين رئيسي البلدين. لكن يبدو أن هذه الورقة لم يعد لها أي تأثير بعد استهلاكها التام، فعاد خَدَمة السلطة إلى الورقة التقليدية في جرابهم laquo;تقرير مصير الصحراء الغربيةraquo;، فشحنوا العاطفة الوطنية وزادوا الأصوات الداعية للتصعيد مع المغرب، في الوقت نفسه الذي ارتفعت فيه أسعار كثير من السلع الأساسية بنسب بين %40 و%50. ظن هؤلاء أن رفع راية المواجهة مع جارهم الغربي العربي سيلهي الشارع عن غول الأسعار، لكن الورقة حرقت نفسها، وخرجت laquo;ثورة الجياعraquo; بحسب وصف عدة تقارير إعلامية، لكن وزير الداخلية والجماعات المحلية دحو ولد قابلية، رفض أن يخرج عن صف وتصريحات زملائه العرب عند الأحداث المشابهة، فقال إن أحداث الشغب في بلاده laquo;لا تحمل صفة الغضب الشعبي الناقم على سياسة الحكومة، حيث لم يشارك فيها المهنيون والتجار والموظفون، بل إن من ضمن المشاغبين إجراميينraquo;.
الجزائر بلد غني بالنفط والغاز، يملك مساحة جغرافية شاسعة وشواطئ ممتدة وغيرها من المقومات الطبيعية والسياحية والتاريخية التي تجعل منه واحدا من أغنى دول المنطقة، والمفترض ألا يقل أبدا عن مستوى دول الخليج، لكن الفارق بين الجانبين هو كيفية إدارة الثروة ومدى تغلغل الفساد في الحكم. لقد وجد الشعب الجزائري العظيم -الذي خاض واحدة من أشرف معارك النضال العربي- نفسه لا يعيش في المستوى اللائق به. لم يجد كثير من الأكاديميين والكفاءات والمثقفين سوى الهجرة للخارج بحثا عن حياة أفضل، ومن المفارقة أن قطاعا كبيرا منهم اتجه للعمل في دول الخليج مثله مثل زملائه القادمين من دول لا تملك قدرا يسيرا من ثروة الجزائر. اختار جزائريون الغربة وركبوا البحر والطائرات ليبتعدوا إلى عالم آخر، ويتمنى آخرون اللحاق بهم بعدما تحول بلدهم إلى مافيا للجنرالات، فبحسب الكاتب الجزائري أنور مالك هناك laquo;جنرال السكرraquo; و laquo;جنرال الزيتraquo; و laquo;جنرال السياراتraquo; و laquo;جنرال الدواءraquo; و laquo;جنرال الصحافةraquo;، وذكر أنه laquo;لا نجد جنرالات همهم مستقبل المؤسسة العسكريةraquo;، مشيرا إلى أن ثكناتها laquo;تحولت إلى مدارس يتخرج منها التجار والمحتالون والمرتشون وبارونات المخدراتraquo;!!
ولا ننسى هنا الدور الذي لعبه العسكر في إدخال البلاد إلى أتون الحرب الدامية طوال فترة التسعينيات، حينما انقلبو على صناديق الديمقراطية التي اتجهت لصالح laquo;الجبهة الإسلامية للإنقاذraquo;، وكانت على وشك تولي السلطة بعدما حققت فوزا كاسحا خلال الجولة للانتخابات العامة عام 1991. رفض laquo;الجنرالاتraquo; النتائج حرصا على مصالحهم وأحكموا سيطرتهم على بلد المليون شهيد، ليضيعوا عليه وعلى العالم العربي فرصة ذهبية لاختبار قدرة الإسلاميين على الحكم ومشاكله بعيدا عن الشعارات التي يرفعونها، وهل يؤمنون فعلا بمفهوم تداول السلطة وسيتركونها إذا خسروا في انتخابات مقبلة.
وبحسب مالك نفسه فقد laquo;أشعل الجنرالات البلد بحرب أهلية من أجل حماية مصالحهم وكراسيهم، واليوم أشعلوها بحرب مجاعة وفقر تأتي على صحة الناس وحياتهم، فقد صار الجزائريون مهددين بالمجاعة في زمن أسعار خيالية للنفط،، لكن الجنرالات وبارونات المال ومافيا الاقتصاد الذين يتحالفون معهم حولوا تلك الطفرة المالية إلى أرصدتهم سواء عن طريق النهب أو الاحتيال المنظم أو التهريب، حتى أن أحدهم روى لي في التسعينيات أن الجنرالات عندما يقدم البنك الدولي على ضخ أموال جديدة إلى خزينة الدولة (كديون طبعا)، تجدهم في مكاتبهم الفاخرة ينكتون ويجعلون من ذلك اليوم شبيها بـ18 من كل شهر الذي هو تاريخ دفع رواتب العسكريينraquo;.
وأظن أنه مما يزيد حالة الاحتقان بين الجزائريين أن laquo;النظامraquo; لا يتمتع بأي حنكة وحكمة، فلو كانت هناك حرية تعبير في الإعلام خاصة المرئي، وبرامج تلفزيونية تنتقد الأوضاع الخاطئة في البلاد، مثل تلك الموجودة بالقنوات الفضائية الخاصة المصرية، لاستطاعت امتصاص شحنات غضب الجزائريين. فكل المظاهرات التي تشهدها مصر تطالب في الأساس بالإصلاح السياسي، ولم تصل أبدا لدرجة laquo;ثورة جياعraquo; مثلما يحدث في الجزائر هذه الأيام.
لكن الخوف كل الخوف أن يتكرر سيناريو أحداث التسعينيات الدامية، فقد بدأت وقتها في تونس المجاورة شرارة غضب الإسلاميين تجاه قمع السلطة، وسرعان ما هدأت الأحداث في تونس لتنتقل الشرارة إلى الجزائر، فتؤتي أكلها طوال عقد كامل وتفتح بحر الدماء على مصراعيه. ومؤخرا اندلعت وكالعادة في تونس المظاهرات الاجتماعية التي واجهتها الشرطة بالرصاص لتقتل عشرات الأبرياء، لتحمل الرياح نار الاحتجاجات كذلك إلى الجزائر.
قلبي على تونس الخضراء وبلد المليون شهيد!
التعليقات