خالد الحروب

جذر كل الخراب يقع في السياسة المستبدة والتراكمات التي تنتجها على مدار عقود: هذا باختصار هو الدرس البسيط والخطير الذي يأتي من تونس. فقد تأتي الاحتجاجات وصور المعارضات لمثل هذه السياسة على شكل مطالب خدمية، أو مظاهرات اجتماعية بحتة... لكن ذلك هو التعبير الظاهري لحقيقة التغيير الجوهري الذي تنشده الشعوب. رغم أن الانتفاضة الشعبية في تونس بدأت بمطالب خدماتية غير سياسية، فإنها في العمق كانت سياسية بامتياز. بل إن الرسالة الأكثر بروزاً كانت في تقديم أولوية التغيير السياسي على كل الأولويات والتي تلخصت في شعار quot;خبز وماء، بن علي لاءquot;، أي أن الناس مستعدون لتقبل حياة الحد الأدنى معيشياً، لكنهم غير مستعدين لقبول استمرار بن علي في السلطة.

قد تنجح آليات الاستبداد في إطالة أمد حياته مؤقتاً، لكن النهاية واحدة في كل الحالات. هذا ما كان في الماضي، وهذا ما رأيناه يتكرر بانتظام مُدهش في القرن العشرين. ولسوف يتكرر في القرن الحالي، ذلك أن وسائل الإعلام التلفزيوني والإنترنتي، غدت عصية على أدوات الضبط والرقابة التقليدية.





الدرس الأول والأهم هو أن الاستقرار الظاهري المبني على انسداد سياسي إلى تصدع كبير لا يمكن احتواؤه. والسبب أن الاستقرار الظاهري يشتغل على إنتاج الشيء وضده في ذات الوقت. فعلى المدى القصير ينجح في تحقيق وتمرير الصورة المستقرة عن البلد فيروجها داخلياً وخارجياً، بخاصة إن تواءمت سياساته الخارجية مع السياسات الغربية التي سرعان ما تتواطأ بدورها مع أنماط الاستقرار الظاهري المتحالفة معها. أما على المدى المتوسط والطويل فإن الاستقرار الظاهري يشتغل، وفي الآن نفسه، على مراكمة الإحباطات والغضب تحت السطح عوضاً عن معالجتها وتفريغها وتقديم الحلول لمسبباتها أولاً بأول. وهكذا تصبح الصورة الإجمالية خادعة وخطيرة: استقرار بائن للعيان شواهده عديدة، لكنه عملياً يقوم على أرضية هشة تغلي البراكين تحتها.

الدرس الثاني يقول إن توظيف الحداثة والعلمانية بهدف إطالة أمد التسلط لا يمكن أن يستمر طويلاً. قد ينجح هذا التوظيف على خلفية التخوف من الحركات الإسلامية الأصولية. ويصبح الخيار المطروح على الشعوب والأطراف المختلفة محصوراً بين أنظمة علمانية فاسدة ومستبدة، وحركات إسلامية أصولية برامجها غامضة وتجاربها لا تبشر إلا بمزيد من الاستبداد والخوف. وعلى هامش هذا الضيق الخانق في الخيارات يصبح الانحياز للأنظمة القائمة، على ما فيها، خياراً عقلانياً كما يجادل كثيرون. ورغم ما في هذا الرأي من وجاهة لا يمكن أن يتم التغافل عنها، فالتجربة والشواهد المتزايدة تضعف منطقه الإجمالي. فعلى المدى الطويل أيضاً تخسر الحداثة والعلمانية كثيراً عندما تكون ممثلة بأنظمة مستبدة وفاشلة، والخسارات المتلاحقة لهما في منطقتنا كانت هي الممول الأهم لصعود التيارات الأصولية. فهذه الأخيرة لم تكن لتنجح بناءً على برامج خارقة اقترحتها على الشعوب، بل لأن البدائل الحداثية والعلمانية فشلت وصارت عناوين للاستبداد والفساد والقمع.

الدرس الثالث يقول إنه على الضد من الاتهامات الإحباطية للشباب العربي بأنه غير مبال بالشأن العام، فإن الشرائح الشبابية العربية تمتلك وعياً عميقاً بالقضايا المحيقة بها. والأهم من ذلك أنها مستعدة للتضحية في سبيل تحسين ظروفها ومواجهة ما تراه ظلماً وغياب عدالة. ويثبت الدرس التونسي أنه ليس من الدقة القول بأن الشريحة الشابة النشطة الوحيدة في الشارع العربي هي الإسلاميون. فالذي يتبدى لمن يتابع الشارع التونسي أن الاحتجاجات عامة والمشاركين فيها يتجاوزون أي محاولة للتصنيف الحزبي، إسلامية كانت أم علمانية. بل ربما نلاحظ غياب الإسلاميين عن قيادة هذه الاحتجاجات.

الدرس الرابع يقول إنه ما عاد بإمكان أي سلطة التخفي وراء النجاح الاقتصادي وتوظيفه لإدامة الانسدادات السياسية والتسلطية. لا يمكن أن يتواصل أي نجاح أو انفتاح اقتصادي من دون أن يرافقه نجاح وانفتاح سياسي. يكفي أن نتذكر أن تكافؤ الفرص والشفافية والمحاسبة هي مفاهيم تقع في قلب أي اقتصاد ناجح. وهذه المفاهيم لا يمكن أن تتواجد وتشتغل وتحافظ على فاعلية الاقتصاد من دون وجود مناخ حريات سياسية وتعبيرية. وفي غياب القضاء المستقل، والتعددية السياسية، والصحافة الحرة، فإن الاقتصاد الناجح في الظاهر يعمل بسرعة خارقة على تخليق فساد مستشر ومركب، ينمو من دون ردع ولا رقابة.

الدرس الخامس يقول إن الاعتماد على الدعم الخارجي لتعويض الشرعيات المنقوصة لا يحقق إلا استقراراً قصير الأمد. ليس هناك من بديل عن شرعيات قوية متوافق عليها ومتأسسة على بنيات داخلية. فالغرب يواجه هو الآخر تحولات العالم المعولم والإعلام المنفلت. وسياسات النفاق والازدواجية سرعان ما تنفضح، وما عاد بالإمكان إحكام طوق التواطؤ الإعلامي والسياسي لصالح دولة حليفة تقمع شعبها وتدوس على قيم الحرية والتعددية وحقوق الإنسان. ولهذا فأقرب الداعمين لابن علي، فرنسا وأميركا، اضطرتا أخيراً للحديث عن الاستخدام المفرط للقبضة البوليسية. بل نعرف من التجربة التاريخية أن الدول الكبرى تراقب أي وضع محلي في الدول الحليفة، ولا تتردد في تغيير quot;الأحصنةquot; في اللحظة المناسبة. لا يهمها أن يسقط بيدق هنا أو هناك، بل ما يهمها هو الرقعة نفسها وليس البيادق التي فوقها.