هنري كيسنجر

القمة المرتقبة بين الرئيسين الأميركي ونظيره الصيني في التاسع عشر من يناير الجاري، تعقد متزامنةً تقريباً، مع تقدم تم إحرازه في العديد من الموضوعات التي ستطرح عليهما، وهو ما يرجح صدور بيان مشترك إيجابي في ختام تلك القمة. لكن القائدين يواجهان، رأياً من جانب النخبة في بلديهما، يؤكد على الجانب quot;الصراعيquot; في العلاقات بينهما، على حساب الجانب quot;التعاونيquot;.

فمعظم الشخصيات الصينية، تبدو مقتنعة بأن الولايات المتحدة تسعى لاحتواء الصين، وتقييد صعودها. في الوقت نفسه، يدعو كبار المفكرين الأميركيين الاستراتيجيين إلى لفت الانتباه للنفوذ الصيني المتزايد على المسرح العالمي، وأيضاً لقدراتها العسكرية المتعاظمة.


ويجب توخي الحذر في التحليلات التي تقدمها النخبتان لطبيعة العلاقة بين بلديهما، وذلك خوفاً من تحول تلك التحليلات إلى نبوءات قد تجد طريقها إلى التحقق الفعلي في نهاية المطاف. وفي هذه الحالة ستكون العواقب وخيمة، خصوصاً أن طبيعة العولمة بما فيها قدرة التكنولوجيا الحديثة على النفاذ، تلزم الولايات المتحدة والصين حتماً بالتفاعل في ما بينهما في كافة المجالات.

أما الحرب الباردة بينهما، فستؤدي إلى نوع من الاستقطاب العالمي، تختار فيه كل دولة الانحياز إلى طرف من الطرفين، مما يؤدي إلى نشر النزاعات داخل حقل السياسة الداخلية في كل منطقة من مناطق العالم، في الوقت الذي تحتاج الموضوعات الكبرى مثل الانتشار النووي، والبيئة، والطاقة، والمناخ إلى حلول عالمية شاملة.

الصراع ليس عنصراً أصيلًا في تجربة صعود الدول، فتجربة الولايات المتحدة في الوصول إلى سدة الهيمنة الدولية، تمت دون اضطرار إلى الدخول في صراع مع القوى المهيمنة على الساحة الدولية في الوقت الذي تم فيه الصعود.

من هنا، ليست هناك حاجة للدخول في صراع في مجال العلاقات الصينية الأميركية. وفي الواقع، أن الدولتين تتواصلان فيما بينهما بشأن معظم القضايا المعاصرة، وتتعاونان على نحو طيب. وما يحتاجان إليه الآن هوquot;مفهوم شامل للتفاعلquot;. فمن المعروف أن المفاهيم المشتركة لم تظهر بعد، وسط هذا الكم المربك من المهام الجديدة التي تواجه عالماً متعولماً، يشهد الآن حالة من الفوران في المجالات السياسية والاقتصادية والتكنولوجية.

والمشكلة أن الولايات المتحدة والصين ليس لديهما خبرة في المهام الجديدة للعالم المتعولم. فكلاهما يرى أنه يمتلك منظومة قيم فريدة، تمثل نموذجاً يجب احتذاؤه من قبل الآخرين. وفي رأيي أن التوفيق بين ذينك النظرتين للتفرد، والاستثنائية، هو أكبر التحديات التي تواجه العلاقات الصينية - الأميركية.

فالنزعة الاستثنائية الأميركية، أي نظرة واشنطن لنفسها على أنها تمثل استثناءً أو نموذجاً فريداً - ترى أنه من حق الولايات المتحدة أن تربط بين سلوكها تجاه الدول الأخرى، وبين قبول هذه الدول للقيم الأميركية في المقام الأول. أما الصين فترى أن صعودها الحالي على المسرح العالمي، ليس سوى عودة للحالة الطبيعية عندما كانت هي القوة المهيمنة على العالم منذ 200 عاماً على وجه التقريب.

تاريخياً، كانت الولايات المتحدة تتصرف على أساس أنها قد تقرر الدخول لحقل الشؤون الدولية أو الانسحاب من هذا الحق، حسب رغبتها. أما إدراك الصين لذاتها فهو أنها عندما كانت تعرف باسمquot; المملكة الوسطىquot;، لم يكن مبدأ المساواة بين الدول معروفاً، وهو ما استمر حتى نهاية القرن التاسع عشر. وكانت الصين خلال فترة صعودquot; المملكة الوسطىquot; إلى مقام الهيمنة على العالم تتعامل مع باقي دول هذا العالم على أنها لا تزيد عن كونها مجموعة العبيد، ولم تكن ترى أن هناك دولة مكافئة لها في الحجم والقدرة، إلى أن قامت الجيوش الأوروبية بغزو الصين، وإجبارها على الخروج من عزلتها. ومن الحقائق المثيرة للاهتمام في هذا السياق أن الصين لم يكن لها وزارة خارجية قبل عام 1861، وكان الهدف الوحيد لإنشائها في ذلك التاريخ هو تكليفها بمهمة التعامل مع ممثلي القوى الاستعمارية الغازية.

وهناك اختلاف في نظرة البلدين للمشكلات القائمة بينهما، وكيفية حلها: فالولايات المتحدة تجد أن معظم المشكلات التي مرت بها في العلاقات بينها وبين الصين هي من النوع القابل للحل. أما الصين فطورت عبر تاريخ يمتد لآلاف السنين، قناعة مؤداها أن هناك عدداً قليلاً فقط من المشكلات يمكن إيجاد حلول نهائية له. وهناك فارق آخر أن الولايات المتحدة لديها مقاربة لحل المشكلات، أما الصين فتحبذ أسلوب إدارة التناقضات دون أن تفترض بالضرورة أن تلك التناقضات قابلة للحل.

وتمتد قائمة الفروق بين البلدين لتشمل أشياء أخرى، منها أن الدبلوماسية الأميركية تسعى للوصول إلى نتائج محددة من خلال التصميم على الوصول لتلك النتائج، أما الدبلوماسيون الصينيون فالاحتمال الأرجح أن ينظروا إلى المفاوضات على أنها تتضمن عناصر اقتصادية، واستراتيجية، يمكن السعي للوصول لنتائج لها من خلال مباحثات ممتدة تستغرق وقتاً طويلًا.

والمفاوضون الأميركيون يشعرون بالضيق، ولا يطيقون صبراً، عندما تصل المفاوضات لطريق مسدود...أما المفاوضون الصينيون، فلا يواجهون صعوبات نفسيه أو عاطفية مع أي نوع عندما يحدث ذلك، بل ويعتبرون أن تلك الانسدادات، جزء لا يتجزأ من آلية المفاوضات.

والمفاوضون الأميركيون يدركون أنهم يمثلون مجتمعاً لم يواجه من قبل كوارث وطنية باستثناء الحرب الأهلية. أما المفاوضون الصينيون فلا يستطيعون، وهم يجرون المفاوضات، أن ينسوا قرن الهوان الذي عاشوا فيه عندما كانت الجيوش الأجنبية تنتزع منهم الإتاوة رغماً عنهم، ودون أن يكون أمامهم من خيار سوى الرضوخ.

والقادة الصينيون يشعرون بقدر كبير من الحساسية، عندما يكون هناك احتمال لتقديمهم أي تنازل، ويشعرون بأن الإصرار الأميركي على تقديم تنازل في موضوع ما، هو نوع من عدم الاحترام لهم.

والأميركيون يطالبون الصين بشكل متكرر، بإظهار شعور بالمسؤولية الدولية، عند مواجهة مشكلة معينة وهو ما ينظر إليه الصينيون على أنه موقف ينم عن عدم الاحترام أيضاً، خصوصاً أنهم ينظرون إلى أنفسهم على أنهم يبذلون جهداً كبيراً من أجل التكيف مع نظام دولي تم تحديد ملامحه الأساسية في غيبتهم، ويحتوي على برامج لم يشاركوا في تصميمها وتطويرها من الأساس.

وفي الوقت الذي تسعى فيه الولايات المتحدة للتوصل لحلول براجماتية، فإن الصين عادة ما تنظر إلى ذلك المسعى على أنه يحمل في طياته نوعاً من التخطيط والتآمر ضدها، الذي يهدف في نهاية المطاف لإبقاء الصين في وضع أقل منها، والحيلولة دون صعودها في مدارج الرقي والتقدم.

إن محك فاعلية النظام الدولي، هو ذلك المدى الذي يمكن لكل طرف الذهاب إليه من أجل طمأنة الطرف الآخر، أو باقي الأطراف بالطبع. ولا شك أن الحقيقة التي تفرض نفسها على ما عداها في العلاقات الصينية- الأميركية، هي أنه لا يمكن لأي منهما الهيمنة على الأخرى، وأن الدولتين تفهمان جيداً أن الدخول في صراع سيؤدي إلى استنزافهما معاً.

يبقى السؤال هنا: هل يمكن للدولتين أن يتوصلا سوياً إلى إطار مفاهيمي يحتوي هذه الحقيقة ويعبر عنها؟ الإجابة على هذا السؤال، يجب أن تتضمن تطوير مفهوم للتعاون في المحيط الهادي، بحيث يكون هذا هو المبدأ المنظم للعلاقات بين الدولتين في القرن الحادي والعشرين، تجنباً لسياسة تكوين الكتل والمحاور مثلما كان الحال إبان الحرب الباردة. لهذا الهدف تحتاج الدولتان إلى آلية تشاورية، يتم من خلالها تحديد الأهداف طويلة الأمد للدولتين وتنسيق المواقف بينهما في المؤتمرات الدولية.

وينبغي أن يكون الهدف من ذلك إيجاد تقليد من الاحترام والتعاون، بحيث يتمكن خلفاء القائدين (الصيني والأميركي)، اللذين سيجتمعان بعد أيام، من مواصلة التمسك بالرؤية، التي ترى أن بناء نظام عالمي قائم على التعاون المشترك، سيكون أمراً يخدم مصلحة البلدين في نهاية المطاف.

---------

ينشر بترتيب خاص مع خدمةquot; تريبيون ميديا سيرفسquot;