محمد فهد القحطاني

عندما قام الشاب التونسي محمد البوعزيزي بإشعال النار في جسده احتجاجا على مصادرة السلطات التونسية لعربة الخضار التي يسترزق من ورائها، وكانت رأس ماله الوحيد. لم يكن يعلم أنه بهذا الفعل قد سحب بساط الشرعية من تحت قواعد النظام العلماني التونسي، فخر السقف على رأس الطغمة الفاسدة هناك في لمح البصر.
إن ما حدث في تونس عبرة لمن يعتبر من طغاة الشرق الأوسط الذين يحتكرون السلطة والثروة لهم ولأبنائهم وأتباعهم، ويحرمون الغالبية العظمى من أبناء الشعب من كل سبل العيش الكريم. فهل يعقل أن تحتكر أقلية متسلطة متنفذة لا تتعدى نسبتها الواحد في المائة -إن لم تكن أقل- كل خيرات البلاد العربية، وتعيش الجماهير على قارعة الطريق مسلوبة الكرامة والعزة، فليس لها في العير ولا لها في النفير، لا تشارك برأي، ولا تستشار في أمر، ولا يقذف لها إلا بالفتات من الرزق..
إن ما حدث في تونس من ثورة شعبية وقودها الناس البسطاء المستضعفون في الأرض، ولم تشارك فيها النخب والتيارات السياسية المعارضة بكبير قدر، دليل على أن درجة غليان الشارع العربي وصلت إلى حافة الانفجار، وأن السمع والطاعة لكل طاغية متجبر فعل شعبي عربي انتهت صلاحيته مع بزوغ فجر نجاح أول ثورة جماهيرية عربية في القرن الجديد..
لقد كنا من قبل نعول على تدخل الجيوش العربية لتصحيح المسار ورفع الظلم السياسي عن الشعوب العربية، ولم نحصد من وراء ذلك إلا الخبال واستبدال شر بشر أكبر منه. أما مع انتصار الشعب التونسي البطل في إنهاء حكم الديكتاتور بن علي فلقد أصبح الأمل والقول الفصل في رفع الطغيان الشرقي بيد الشارع، وبزمام كل شخص بسيط على شاكلة الشاب محمد البوعزيزي..
نحن نطالب الحكام العرب بسرعة مراجعة حساباتهم قبل أن تقع الفأس التي شقت رأس النظام التونسي في رؤوسهم. والقيام بمصالحة تاريخية مع شعوبهم وذلك بفتح آفاق المشاركة السياسية أمامهم. فلا يعقل أن يستمر إقصاء الشعوب العربية عن إدارة شؤون أوطانهم سواء كانت سياسية أو اقتصادية أو إعلامية أو غيرها من شؤون، وتحتكرها فئة متسلقة منافقة ليس لها من المؤهلات إلا قربها من رأس النظام. في زمن عز فيه القرار الفردي واختفى فيه الاستبداد بالرأي والحكم في أقطار الدنيا كلها إلا عندنا في الوطن العربي..
لقد طفح الكيل بالشعوب العربية وملت من سماع الأسطوانة المشروخة التي تردد عبارة ما أريكم إلا ما أرى.. وما أهديكم إلا سبيل الرشاد. خصوصا وأن هذا الرشاد المزعوم ليس إلا سرعة هرب الطاغية العربي في لمح البصر من أمام التحديات، وترك البلاد والعباد لقمة سائغة أمام الاستكبار الغربي وأمام الفوضى الداخلية..
نحن نبارك للشعب التونسي ما تحقق على يديه من انتصار في ثورة الجياع على أصحاب الطول والتخمة، ونحذرهم من ترك أمور الإصلاح بيد بقايا النظام البائد، ونحثهم في الاستعجال بتشكيل حكومة وحدة وطنية يكون من أول أولوياتها سن التشريعات التي تسمح بإقامة حياة برلمانية على أسس صحيحة تحقق تكافؤ الفرص بين الأحزاب في الوصول إلى مواقع صنع القرار، وتفتح أبواب المشاركة لكل أطياف المشهد السياسي التونسي بدون إقصاء لتيار معين -خصوصا التيار الإسلامي المعتدل الذي تمثله حركة النهضة الإسلامية بقيادة الشيخ راشد الغنوشي، والذي غيب عن الساحة التونسية بفعل الاستبداد العلماني المتطرف. هذا الاستبداد الذي حرم الشعب التونسي من التواصل الفعال مع محيطه الإسلامي، وحاول زرع العلمانية المتطرفة المحاربة لدين غالبية الشعب التونسي وذلك بقوة السلاح في تونس، ومنذ الاستقلال وحتى هرب الطاغية- وتترك خيار الاختيار بين هذه الأحزاب لتشكيل الحكومة التونسية القادمة بيد الشعب، واستنادا لما تسفر عنه صناديق الاقتراع الحرة النزيهة..
ولا يفوتنا في هذا المقال أن نقوم برفع صوتنا بالعتب على الدولة الخليجية التي قامت بفتح أبوابها لدخول الطاغية بن علي وأسرته، ووفرت لهم laquo;الملاذ الآمنraquo;، وهو الأمر الذي أنقذ رأس النظام التونسي البائد من القصاص العادل الذي يستحقه بعد أن حصدت قراراته الأخيرة أرواح عدد يتجاوز الـ60 -إن لم يكن أكثر- من شهداء ثورة الجياع. وهو الأمر الذي أفزع الحكومة الفرنسية وجعلها ترفض استقباله، وتقرر طرد كل المقربين منه من ديارها، مع العلم أن الحكومة الفرنسية كانت من أقرب الحلفاء لهذا الطاغية، والرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي كان من المدافعين عن النظام العلماني التونسي، ومع ذلك لم يستطع منح اللجوء السياسي لزعيم ما زالت يداه تحمل آثار وإثم سفك دماء الشعب التونسي في الأحداث الأخيرة. فحتى متى تصبح أجواء دول الخليج وأوطانها نقطة عبور واستقرار لكل مستبد مجرم. ما الدافع لتتحمل هذه الدولة الخليجية كل عتاب الشعوب العربية خصوصا الشعب التونسي من أجل عيون قاتل ما زال الشعب التونسي يدفن قتلاه..
عجيب أمر هذه الحكومات العربية، العالم كله في مجال حقوق الشعوب في مسار وهي تمشي في هذا المجال عكس سير هذا المسار وهذه الآمال. لدرجة أن توفير الملاذ الآمن للطاغية مقدم عند هذه الحكومات على المطالبة بتحقيق العدالة لضحايا هذا الطاغية نفسه. أما الادعاء بأن منح اللجوء السياسي لهذا الطاغية يحقق مصلحة الشعب التونسي في هذا الظرف العصيب، فإنما هي دعوى من غير ما دليل ولا بينة إلا التلاعب بالألفاظ. وذلك أن معاقبة هذا الجاني على ما اقترفت يداه في حق الشعب التونسي فوق أنه حق من الحقوق المشروعة للشعب التونسي هو أمر يعزز هدف العدالة ويحقق الزجر الخاص لهذا الجاني ويوفر الردع العام الذي يمنع الطغاة الآخرين في الوطن العربي من السير في طريق الظلم الذي سار فيه الطاغية بن علي حتى لا تكون نهايتهم كنهايته، لهذا كله نرى أن توفير الملاذ الآمن لهذا الظالم يخل بهدف إصلاح النظام السياسي العربي ويفتح المجال أمام هرب الطغاة الآخرين من العقاب العادل.. وزبدة الكلام أن الجماهير في تونس العزيزة لم تتهيب من صعود جبال التحرر الوطني، وتركت العيش بين حفر استبداد وفساد النظام السياسي العربي لغيرها من الشعوب. فهل تصل الرسالة للآخرين وتفهم الشعوب العربية أن القدر لا يستجيب إلا للأحياء. وتنفض عن كاهلها غبار الموت المعنوي، وتعانق شوق الحرية، وتنسى الحذر حتى ينكسر القيد وينجلي ليل الاستبداد العربي الطويل..
وويل للنظام السياسي العربي من شر قد اقترب!
ومسك الختام يا شعب أبي القاسم الشابي لكم مني التحية، ونرفع لكم العقال احتراما لتضحياتكم وتقديرا لبطولاتكم. وشكرا لكم على الرسالة، فلقد وصلت وفهمتها الشعوب العربية وفحواها أن الحرية تنتزع ولا تمنح..
وصدق الشاعر حين قال:
يفوز باللذات كل مغامرويموت بالحسرات كل جبان
والسلام