رضوان السيد


أشعلت استقالة الوزراء الشيعة، ووزراء عون والحلفاء السوريين من الحكومة فتيل الأزمة اللبنانية من جديد. إذ إن استقالة أحد عشر وزيرا من حكومة سعد الحريري ذات الثلاثين وزيرا عنت استقالة الحكومة. وهي المرة الأولى التي يحدث فيها هذا الأمر منذ استقلال لبنان عام 1943. فقد حاول الوزراء الشيعة وحلفاؤهم ذلك من قبل في عهد حكومة الرئيس فؤاد السنيورة الأولى، لكنهم فشلوا في ذلك، لأنه كان قد احتاط بالاحتفاظ بأكثرية الثلثين (16 وزيرا)، بينما لم يحتط الرئيس سعد الحريري؛ إذ قبل في اتفاق الدوحة بـ15 وزيرا (بما في ذلك وزراء وليد جنبلاط)، وكانت النتيجة أن الشباب لم يأبهوا لاتفاق الدوحة، الذي وقعه ممثلوهم، وهو ينص على عدم الاستقالة، وعدم التعطيل. وقد عطلوا اجتماعات مجلس الوزراء لشهرين، ثم استقالوا. وفي هذه الحالة، كما في عهد الرئيس السنيورة من أجل المحكمة الدولية. أيام الرئيس السنيورة كانوا يريدون الحيلولة دون إقرار المحكمة، واليوم يفعلون الشيء نفسه لإرغام سعد الحريري وحلفائه على التراجع عن الاعتراف بالمحكمة، وفك الالتزام بها من جانب الحكومة اللبنانية! وعلة ذلك كله اقتناع حزب الله وحلفائه بأن المحكمة سوف تتهمهم أو تتهم أفرادا من حزب الله باغتيال الرئيس الحريري ورفاقه.

وكانت شهور قد انقضت من التعطيل وإلى الاستقالة، والحزب وسورية يقولان إنهما شبه مطمئنين إلى نتائج المبادرة أو التفاهم السعودي - السوري لإنهاء الأزمة من حول المحكمة وفي النظام. إنما قبل أسبوعين أعلن عن وصول المقاربة السعودية - السورية إلى أفق مسدود، ولذا فقد انسحبت المملكة من هذا المسعى، وتمنت على سورية أن تفعل الشيء نفسه. لكن السوريين ما انسحبوا: بل أعلنوا غضبهم الساطع على الحريري وحلفائه، واستحثوا أنصارهم في لبنان على المسارعة للاستقالة، لكي تكون حكومة الحريري قد سقطت عندما يقابل الأخير الرئيس الأميركي. ولكي لا يعطوا لأحد فرصة للتشكيك في الأمر، أو مراجعته، فقد طلبوا من رئيس الجمهورية إجراء المشاورات للتكليف وتشكيل حكومة جديدة خلال ثلاثة أيام. إنما عندما جاء يوم الاثنين الماضي في 17/1، عادوا فطلبوا من رئيس الجمهورية تأجيل الاستشارات أسبوعا لإعطاء فرصة للوساطات. وقتها كان رئيسا وزراء تركيا وقطر قد وصلا لسورية للوساطة. وأشاع حزب الله وحلفاؤه في لبنان أن الوساطة إن كانت فعلى أساس ما جرى الاتفاق عليه في مبادرة الـ(س - س) أي السعودية وسورية. وفي صبيحة الثلاثاء وعندما كان وزيرا الخارجية القطري والتركي على مشارف الوصول إلى لبنان لمتابعة وساطتهما، بعد أن اعتقدا أنهما نجحا في تهدئة الجانب السوري، قام مئات من أنصار الحزب وحلفائه بانتشار واسع على مدى ساعتين، أرعبوا من خلاله المواطنين، ولكي يأخذ الرئيس الحريري وحلفاؤه ذلك في اعتبارهم، فيخضعوا بسرعة لمطلبهم في الخروج من المحكمة أو يحدث ما لا تحمد عقباه، وبخاصة أنه في يوم الاثنين بالذات أعلنت المحكمة الدولية أن قاضي الإجراءات التمهيدية تسلم القرار الاتهامي من المدعي العام بلمار، تمهيدا لإعلانه بعد دراسته بدقة. ولا يقول السوريون الآن لماذا خبأوا الاتفاق أربعة أشهر، ولم يبدأوا بتنفيذه، ويريدون هم وحلفاؤهم تنفيذه الآن، وكيف. كما أنه من غير المعروف ماذا يحمل الأتراك والقطريون من اقتراحات للتداول مع الأطراف.

وكان انكشاف توقف المسعى السعودي - السوري قد حرك الأجواء الإقليمية والدولية خوفا على انهيار الاستقرار اللبناني بعودة حزب الله وحلفائه لاستخدام السلاح. فمضى وزير الخارجية السعودي إلى تركيا، حيث قابل المسؤولين هناك. وبعد أيام جاء وزير الخارجية الإيراني صالحي إلى أنقرة. في حين أعلن الرئيس ساركوزي عن تكوين مجموعة اتصال لمتابعة الأزمة اللبنانية، وتجنب بلوغها الدرجة الأسوأ. وبذلك يكون الأتراك قد صاروا قطب الدائرة في العمل من أجل المصالحة والاستقرار في لبنان. فهم يحظون بالدعم السعودي والموافقة الإيرانية. وهم جزء من قناة الاتصال الفرنسية. وهم أخيرا على علاقة مباشرة بالرئيس السوري والرئيس سعد الحريري الذي كان قد زارهم عشية عودته إلى لبنان من نيويورك وواشنطن وباريس.

ماذا يريد السوريون بالفعل، وماذا يريد حزب الله وحلفاؤه؟ لا أحد يعرف ماذا يريد السوريون بالضبط. أما حزب الله فيريد من الحكومة اللبنانية برئاسة سعد الحريري أن تعلن عن الخروج من الالتزام تجاه المحكمة الدولية! ومع أن أحدا لا يعرف بالضبط ماذا كان السوريون والحزب مستعدين لتقديمه في مقابل ذلك؛ فالمفهوم أن المطلوب كان أمورا تتعلق باستعادة الدولة والطائف، والتفرقة بين سلاح المقاومة، والسلاح الذي نشره حزب الله وحلفاؤه بالداخل اللبناني واستخدموه في التوتير والاستيلاء، وإلغاء الثلث المعطل وأشباهه من الحكومة، وإلغاء المعسكرات الفلسطينية وأسلحتها خارج المخيمات (مطلوب من سورية). وما نفذ شيء من هذه المطالب بالطبع؛ بل حدث عكس ذلك. ولذا صار من الضروري أن توضع محترزات وضمانات لتنفيذ ما يجري الاتفاق عليه، ومن ذلك أن يعلن عن القرار الاتهامي بالفعل، وأن يبدأ التنفيذ ببعض خطوات وإجراءات بناء الثقة مثل الكشف عن مصير المفقودين في سورية، وأن يسحب الاتهام عن الـ33 شخصا من محيط سعد الحريري من جانب سورية، وأن يخرج السلاح المنتشر في شوارع بيروت لدى الميليشيات من حلفاء الحزب، وأن يكون هناك إطار عربي يمكن مراجعته بشأن التنفيذ.

والحق أن كل الاتفاقات لا تفيد إن لم تستقر العلاقات السورية - اللبنانية. ولا أعرف سبيلا لهذا الاستقرار حتى الآن، باستثناء استمرار المملكة في الاهتمام والضبط. فالسوريون يتظلمون كل الوقت، ونحن مقتنعون بأنهم ظالمون، ولا ثقة إلا بالندية واستمرار التشاور والمكاشفة. والمشكلة مع الحزب مزدوجة، فنحن في الأصل مختلفون بشأن استقلال الحزب بسلاحه وكيان دويلته عن الدولة. ثم أُضيف لذلك أنه صار مستعدا لاستخدام السلاح بالداخل وفي مناطق المسلمين الآخرين ببيروت وخارجها لأي سبب مهما بلغت هامشيته. وهذا أمر لا يمكن احتماله ولا التسليم به. وهذا فضلا عن الانقسام الذي تسبب به الحزب وحليفه الجنرال عون في وزارات الدولة ومؤسساتها. وكل هذه أمراض تحتاج إلى سنوات للخروج منها، وهذا إذا توافرت الإرادة الحقيقية، وهي غير متوافرة. فالطرف الذي يعتقد أنه يستطيع تحقيق ما يريد من طريق القوة، لا يعود لديه الصبر للإقناع والمسايسة والحوار.

ثم هناك العامل الإقليمي. فإيران هي ولي أمر الحزب. ولإيران مناطق نفوذ إقليمية، تعتقد أنها تستطيع استخدامها في تجاذباتها مع الولايات المتحدة، ولبنان منها. وها هي قد استنفرت بالعراق وغزة ولبنان استعدادا للقاء مع الولايات المتحدة وحلفائها في اسطنبول يومي 21 و22/1/2011. وهناك أخيرا العلاقات الأميركية - السورية. وسورية تريد إذنا وتكليفا ليس من السعودية ومصر وحسب؛ بل ومن الولايات المتحدة. وهذه مسائل لا يملك أي منها الوسيلة للسيطرة عليها أو التأثير فيها. وهذا هو السبب الآخر لأهمية التدخل التركي. فالأتراك لهم علاقات جيدة بكل الأطراف السالفة الذكر. فها هم قد قدموا مع القطريين (رعاة اتفاق الدوحة المجهض) إلى بيروت. وسيحاولون إحداث التهدئة في المرحلة الأولى، سعيا لاستيعاب المشكلة والتصدي لحلها.

وهكذا فقد قضى رئيس الوزراء القطري ووزير خارجية التركي نهارين وليلتين طويلتين، وهما يتجولان بين الأطراف: نبيه بري وحسن نصر الله من جهة، وسعد الحريري ورئيس الجمهورية من جهة أخرى. وما أمكن التوصل لشيء، فغادر الرجلان لبنان على وعدين: وعد العودة، ووعد الحفاظ على التهدئة. فهل يعودان؟ وهل تستمر التهدئة؟ كلُ الاحتمالات واردة بما في ذلك استمرار التهدئة!