محمد كريشان

ما حصل في تونس ثورة حقيقية على أكثر من مستوى، من ذلك تلك اللقطة التي ما كان لأي تونسي أن يتخيلها في يوم من الأيام: الجنرال رشيد عمار رئيس أركان البر يخاطب الجماهير المعتصمة أمام مقر الحكومة وبمفردات لم تكن يوما متداولة أبدا، ليقول لهم 'لا تضيعوا هذه الثورة المجيدة' ومؤكدا لهم أن 'الجيش هو حامي البلاد والعباد' وأن 'كل القوات المسلحة صادقة لكي تصل بالسفينة إلى بر الأمان'.
كما طالب الجنرال الحشود بالتحلي بالصبر لأشهر معدودات لا تتجاوز الستة لتتمتع البلاد أخيرا بثمار التحول الديمقراطي الحقيقي. ولم ينس، وهو الذي يكنّ له التونسيون كل احترام لرفضه إطلاق النار على المتظاهرين، من التنبيه من أن 'الفراغ يولد الرعب والرعب يولد الدكتاتورية'. بعبارة أخرى، قال الجنرال للتونسيين عمليا عودوا إلى أعمالكم ودراستكم واتركوا هذه الحكومة ترتب في آجال محدد الأوضاع الانتقالية بضمانة قطعية من الجيش.
يأتي هذا في وقت لم تهدأ فيه بعد تحركات الشارع التونسي، وإن كان بزخم أقل، مطالبا بإسقاط الحكومة، مع أن ذلك لم يتحول - إلى حد الآن على الأقل- إلى مطلب شعبي جارف يلتف حوله الجميع. كما بدا لافتا أن الرأي العام التونسي الذي لم يتعود في تاريخه على تلك النوعية من التحركات الشعبية والإضرابات المفتوحة لم يعد يبدي حماسة في أن تستمر الأوضاع على ما هي عليه خاصة مع شعوره بأن إسقاط الدكتاتورية وهروب رمزها يعد مكسبا كبيرا يحتاج إلى تثمير أوضح. ومن هنا تأتي تصريحات الجنرال عمار كنوع من الطمأنة للجميع بأن الثورة لن تضيع وبأن ذلك يقتضي تعاطيا مختلفا مع الحكومة رغم هناتها ونقائصها درءا للفراغ، كما يخشى كثيرون.
وفضلا عن غياب عنصر الثقة الذي جعل الناس هنا شكاكين دائما في التحركات الرسمية، يوجد أمران أساسيان زادا من صعوبة الأوضاع، أولهما غياب شخصيات سياسية كبرى قادرة على توجيه دفة الأمور والتحكم في انفعالات الشارع وتحركاته، وثانيهما أن الإعلام الوطني غير قادر على التأثير في صياغة مزاج الناس ومواقفهم. الأول نتاج طبيعي لتصحر الحياة السياسية لأكثر من عقدين بسبب الاستبداد والفساد والثاني نتيجة منطقية للطابع الدعائي الهزيل الذي صبغ هذا الإعلام طوال نفس الفترة. وعندما يتداخل العنصران نسجل غياب قدرة كثير من الأطراف السياسية على التواصل مع القواعد الشعبية عبر الإعلام الوطني أو الدولي بهدف تكييف تحركاتها أو توجيهها نحو أهداف سياسية واضحة المعالم. كل ذلك أيضا يبدو مفهوما بالقياس مع غياب أي تجربة سياسية حقيقية في البلاد إذ لم يوجد طوال ثلاثة وعشرين عاما أي نوع من الحراك الحقيقي على هذا الصعيد.
ومع تسجيل نوع من التراجع الآن في قوة اندفاع الناس للاحتجاج في الشارع إلا أن ذلك لا يقلل من شيء من أهمية استمرار بعض التحركات لإبقاء الفريق الحاكم الجديد تحت حد أدنى من الضغط الدافع للتغيير.
لكن ذلك لا يمنع ، كما يرى كثيرون في تونس، من الحذر من طبيعة بعض التحركات كتلك التي يقودها اتحاد النقابات الذي تلام قيادته على ما يوصف بالتواطؤ مع الحكم السابق في وقت نراه اليوم يصعد أكثر من المطلوب. كثيرون يعتقدون أنه لا تناقض بين ضرورة العودة إلى العمل والدراسة في بلد قدرة تحمله للأوضاع المعلقة محدودة وأهمية الإبقاء على جذوة الثورة مشتعلة للدفع بورشات الإصلاح السياسي إلى الأمام.
هذه المرحلة الانتقالية تبدو حاسمة في تحديد مستقبل تونس والمطلوب فيها كثير من الانتباه والحذر دون تراخ مبالغ فيه أو مزايدة غير محسوبة، كلاهما خطير. أما الضمانة الأقوى على الإطلاق فتبقى، أولا وأخيرا، في تيقظ الناس الدائم ونضجهم وعدم استعدادهم لتفويت الفرصة التاريخية التي أتاحتها هذه الثورة لجعل البلد أخيرا على سكة الإصلاح الديمقراطي الحقيقي ولو على مراحل. المهم أن تكون مراحل صادقة وثابتة وغير قابلة للانتكاس.