كي تحيا مصر

ساطع نور الدين
السفير اللبنانية
النكات الشائعة في مصر هذه الأيام تدور كلها حول المقارنة بين انتفاضتها الحالية وبين ثورة تونس، وتسأل عن موعد سفر الرئيس حسني مبارك الى السعودية لأداء فريضة الحج التي يؤديها حالياً الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي، وعن السباق الذي دخله الشعب المصري للحاق بشقيقه التونسي، وعن الأهداف التي ستسجل في المباراة النهائية بينهما...
لكن الشارع المصري، الذي يحتله الآن الجيل الشاب غير الحزبي والذي اكتسب معرفته وتجربته السياسية من الإنترنت لا من الكتب الايديولوجية ولا حتى من الممارسة اليومية، ينادي بالتغيير الذي طال انتظاره، لكنه يطلبه بالتحديد من مبارك قبل أن يسافر الى أرض الرجاء او يرحل الى دار الفناء.. وكذا يفعل الجميع خارج مصر ويلحون على الرئيس أن يقدم على الخطوة المرتقبة قبل فوات الأوان، وقبل ان تتحول المنافسة مع تونس الى ما لا تحمد عقباه لا في الدنيا ولا في الآخرة.
التغيير بدأ في مصر، وهو كالعادة حدث تاريخي، عربي وإسلامي ودولي أيضاً، يحدد معالم منطقة شاسعة مسكونة بالفراغ ومهجوسة بالفوضى، تدور حول فلكها المصري ومحور وعيها وثقافتها وهويتها، وتترقب الخبر اليقين بأن الجنازة الرئاسية المستمرة منذ اعوام قد انتهت وأزيلت أعلام الحداد، وأطل فجر جديد على العرب والمسلمين يرد على أسئلة بديهية حول العروبة والوطنية والإسلام والفتنة وإسرائيل والغرب، لم يجد أجوبتها احد لا في المشرق ولا في المغرب سوى بالحرب الأهلية.
التغيير في مصر سبق تونس، والأدق أن التوانسة استلهموا التجربة المصرية لا العكس. منذ سنوات عديدة ضاعت هيبة الحاكم في القاهرة، ومعها هيبة حكام عرب كثيرين بينهم بن علي. ومنذ سنوات أيضاً اخترق الإعلام الالكتروني المصري حواجز الصمت والرقابة، وتحول المدونون المصريون الى ظاهرة عالمية، وإلى نموذج عربي وإسلامي متقدم. ومنذ سنوات كذلك، هتفت مصر ضد التوريث فاهتزت شرعيات عربية عديدة، وصارت الخلافة مثار جدل حتى في الأنظمة البطريركية.
الشارع المصري يقطف، او هو يحاول أن يقطف، هذه الأيام ثمار ما زرعه في تلك السنوات القليلة الماضية، وهي ثمار لم تنضج تماماً، لكنها تدب الرعب في المؤسسة الحاكمة السياسية والأمنية والاقتصادية، وتدفعها الى السؤال عما اذا كان عليها ان تستعد للرحيل من الآن الى جدة، أم أن الوقت ما زال متاحاً لبعض البطش الذي يؤجل التغيير ولا يلغيه.. لأنه محكوم بموعد حتمي مع الموت الوشيك، الذي ينفي فكرة التجديد في معركة الرئاسة المقررة في خريف هذا العام، ويعيد فكرة التوريث إلى أصلها الهزلي المشين.
الشارع المصري يصرخ بصوت عال، إن الوقت داهم وكذا الخطر، الذي لا يحتمل المقارنة مع تونس، وهو يترقب من مبارك بالذات، ولا أحد سواه أن يستجيب للنداء العاجل، ويضمن عملية انتقال سلمي هادئ للسلطة، لا أن يرتكب المزيد من الأخطاء التي تضعه على سلم أول طائرة متجهة الى السعودية، مخلفاً وراءه حريقاً هائلاً، لا يعفيه من المحاسبة حتى ولو ظل يمضي أيامه الأخيرة بالطواف حول الكعبة.
تونس والعالم العربي تداعيات ودروس
أحمد عمرابي
البيان
laquo;نحن لم نأت من كوكب المريخraquo;، هكذا خاطب أحد رجال الأمن التونسي مظاهرة عظمى في شارع الحبيب بورقيبة في العاصمة التونسية، بعد أن انضم إلى جموع المتظاهرين آلاف من عناصر الأجهزة الأمنية والشرطة. والمغزى واضح بالمفهوم الطبقي، فالعناصر الأمنية هم عند نهاية المطاف جزء لا يتجزأ من الطبقة العاملة المسحوقة، التي استهدفها نظام الديكتاتور زين العابدين بن علي بالظلم والقمع.
هذا أول درس ينبغي أن تستوعبه الطبقة الحاكمة في العالم العربي. والمغزى الأعمق والأبلغ لهذا الدرس، هو أنه عند نقطة ما من الفوران الشعبي المتصاعد، تكسر جماهير الشارع حاجز الخوف، وأنه عند هذه النقطة الزمنية أيضاً، تتخلى قوات الأمن عن ولائها لسلطة حاكمة يتصرف رموزها من وحي الخلاص الذاتي. هنا يحدث فرز يمتد فيه خط فاصل وقاطع، تقرر فيه العناصر الأمنية تصحيح موقفها فتنضم إلى الغالبية.
منذ اندلاع لهيب الفوران الشعبي في مدن تونس، قبل نحو أسبوعين، كانت قوات الأجهزة الأمنية تقوم بعمليات قمع وحشي جرى خلالها استخدام الرصاص الحي، ما نتج عنه سقوط عشرات القتلى. لكن ما نشهده الآن من تحول هذه القوات من صف السلطة إلى صفوف الجماهير، يشي حقاً بأن الانتفاضة التونسية انتقلت على نحو فجائي إلى ثورة كاملة.
والسؤال الذي يطرح هو: هل تتوقف غالبية الأنظمة الديكتاتورية في العالم العربي عند هذا المشهد الفريد لتستخلص ما ينبغي استخلاصه؟
القوة الحقيقية التي يعتمد عليها بقاء النظام، تتمثل في الجهاز الأمني. فهذا الجهاز لا يتولى فقط مهمة قمع المعارضة وأنشطتها، وإنما هو شبكة تتغلغل في جميع أوجه الحياة، بأنماطها السياسية والاجتماعية والمعيشية.
وما ينبغي أن تدركه رموز تلك الأنظمة، هو أن مثل هذا الجهاز مستهدف على الدوام بكراهية شعبية عارمة.. وهي كراهية تتصاعد وتتسع دوائرها مع مرور الزمن، حتى تتفجر جماهيرياً على نحو ما جرى في تونس.
الدرس الثاني؛ هو أن اندلاع الثورة التونسية أدى إلى فضح ادعاء الأنظمة، بأن المعارضة في العالم العربي تنحصر فقط في أنشطة تنظيمات ما يطلق عليه laquo;الإسلام السياسيraquo;. فالثورة في تونس تفجرت من غضب شعبي عام، وقد تقدمتها كافة الأحزاب والمنظمات والفصائل، بمختلف ألوان الطيف السياسي، بل ولم تكن تنظيمات الإسلاميين جزءاً من الواجهة..
وفي هذا السياق، نشرت وكالة الأنباء الفرنسية تقريراً يلفت الانتباه إلى غياب الشعارات الإسلامية عن الثورة التونسية، ما يضعف حجة الكثير من الأنظمة العربية الحاكمة، التي تقول إنها تحول دون وصول laquo;الأصوليينraquo; الإسلاميين لسلطة الحكم.
ويقول تقرير الوكالة، إن الرئيس التونسي السابق ابن علي، أمضى معظم فترة حكمه التي امتدت إلى 23 عاماً، في سحق الجماعات الإسلامية المعارضة (التي كانت مناهضة للنظام العلماني الصِرف الذي طبقته حكومته). وبعد هجمات سبتمبر 2001 في الولايات المتحدة، أصبح الرئيس ابن علي من الداعمين المتحمسين لــlaquo;الحرب على الإرهابraquo; التي شنتها واشنطن. لكن الأدلة التي ظهرت على مدى الأيام الماضية ـ تقول الوكالة ـ تشير إلى أن الشعارات التي ترددت في تونس، لم تطالب بتطبيق الشريعة الإسلامية.
من هذا تستخلص الوكالة أن ما جرى في تونس، يسبب حرجاً لحكومات الغرب التي قضت عشرات السنين في تبرير دعمها لابن علي وغيره من حكام العالم العربي، من خلال الإشارة إلى أن البديل هو ثورة إسلامية راديكالية.
لقد أثبتت الثورة التونسية، أن مطلب المعارضة الشعبية في العالم العربي ينحصر في كلمتين: الخبز والحرية. وهو مطلب ينعقد عليه إجماع الشعب بكل فئاته، بصرف النظر عن تنوع التوجهات السياسية والأيديولوجية تحت عنوان: laquo;الديمقراطية التعددية الحقيقيةraquo;. لذا كان القمع السلطوي يستهدف الجميع، مع تركيز أشد على جماعات الإسلام السياسي.
ومنذ الوهلة الأولى لاندلاع ثورة الشارع، سعى رموز النظام إلى اختطافها أو إجهاضها، لإفراغها من مضمونها عبر تغيير شكلي. لكن يبدو الآن، وبعد انضمام القوات الأمنية إلى جماهير الشارع ومع التزام قيادة الجيش بالحياد، أن العنفوان الثوري بلغ نقطة اللاعودة.