محمد الرميحي

لن أستغرب كثيرا، أخذا بما نتابع منذ سنوات في الشأن اللبناني، لو نصبت laquo;محاكم تفتيشraquo; للعهد السابق في لبنان تحت ذريعة يعشقها laquo;المعترraquo; اللبناني وهي laquo;سرقة العصرraquo; من المال العام. التفاصيل ليست مهمة. لقد حدث هذا تقريبا عندما خرج الحريري الأب من الحكومة قبل سنوات، فسيق خاصته ومن عمل معه، إلى محاكمات تحت ذلك البند الصوري، بل هو شخصيا رحمه الله لم يسلم من مروحة من التهم، تتمحور حول المال واستخدام laquo;فاسد للنفوذraquo;.

الأزمات اللبنانية تتوالد، ربما منذ أكثر من قرن من الزمان، حتى قبل ظهور لبنان الحديث، لعل أبرزها حرب الجبل أو الحرب الأهلية الأولى عام 1860 التي وضعت لها عنوان laquo;عدم القدرة على التعايشraquo; حتى تدخلت القوى الخارجية، وتفاقم الأمر بعد ظهور لبنان الحديث منذ ما يقارب القرن من السنين.

طوائف تعتقد أنها قد حصلت على القوة من داعم خارجي، تستقوي على الطوائف الأخرى. بقليل من التحوير هنا أو هناك، إلا أن الشعار المكرر الذي يردده السياسيون laquo;عشتم وعاش لبنانraquo; هو شعار للبسطاء والخداع في نفس الوقت، الحقيقة هي laquo;عاشت الطائفةraquo; وعاش مناصروها من الخارج.

الانقلاب الذي حققه حزب الله بوضع من يرغب في سدة الرئاسة الحكومية، في هذه الحالة السيد نجيب ميقاتي، يعني أنه حصل على الرئاستين معا مع نفوذ كبير على الرئاسة الأولى، فأصبحت رئاسة مجلس النواب ورئاسة مجلس الوزراء رهنا بإشارة من laquo;السيدraquo;.

لم يكن ذلك ممكنا إلا بوجود السلاح الذي هدد به ظاهرا أو باطنا، معنى ذلك أن الجبهة الجنوبية في لبنان سوف تظل صامتة، وسوف تطمئن إسرائيل أنها لن تعاكس حتى بنسمة. لأن حزب الله في استيلائه على السلطة العامة في لبنان سوف يحمل معها تعطيل أي جهد سلبي على الحدود. على كل حال الحدود الجنوبية للبنان محروسة من قبل قوة دولية قوامها خمسة عشر ألف عنصر دولي مصحوبين بكل الخدمات الطبية والاجتماعية لأهل الجنوب ومدعومين بقرارات دولية.

المعركة إذن كما قال الرئيس أحمدي نجاد قبل أشهر وفي بيروت، أن المحور الإيراني امتد من طهران إلى بيروت، هذا ما قاله وهذا ما تحقق في الأسبوعين الماضيين. إن ظهرت الحكومة الميقاتية إلى الوجود، فبجانبها استقالة حزب الله المبطنة من laquo;المقاومةraquo; للدخول في laquo;الدولةraquo;. وهي دولة تحتاج إلى خدمات من كهرباء وماء ووظائف وجسور ومطارات، لا يستطيع حزب الله - منطقيا - أن يغامر بها بمناوشات على الحدود الجنوبية، لو حدث ذلك فإن حرب 2006 سوف تبدو كنزهة فيما يمكن أن تسببه حرب دولة على دولة. في حرب 2006 تدفق نحو مليون لاجئ جنوبي إلى مدن وقرى سنية وأيضا مسيحية فاستضافهم إخوانهم من جانب، ومن جانب آخر لم تستطع إسرائيل أن توسع الحرب لأن الغطاء السني والمسيحي السياسي والإنساني كان جاهزا لتغطية، وربما ردع معنوي لما يمكن أن تحدثه الحرب من أهوال. هذا التحليل يؤيده ما قاله السيد حسن نصر الله بعد أسابيع من إنهاء الحرب، لو كنت أعرف أن كل ذلك سوف يحدث لما دخلنا الحرب، إن لم يكن بالمفردات فهو بالمعنى، أما الدخول في حرب ووراءها وزارة ميقاتية هي واجهة لحزب الله، فإن الموضوع يختلف كليا. لقد أسقط حزب الله - باستيلائه على الحكم في الداخل - الدرع الحصينة التي كان يمكن أن يحتمي بها، كما أسقط ذريعة laquo;المقاومةraquo;.

فريق 14 آذار إن كانت في السابق يحلم أن يقيم كيان دولة حديثة بشيء من التنازلات، فقد عرف منتسبوه الآن، أن ذلك أضغاث أحلام، لا توجد دولة والسلاح في يدين، يد الدولة ويد أخرى خارج قواعد وقوانين الدولة. فمن يملك فوهات الرشاشات يستطيع أن يطوع أعناق الرجال أيضا، إن لم يكن عن قناعة - فعلى أقلها - لدفع الضرر المحدق.

لن أستغرب أيضا إذا ما قرر حزب الجنرال ميشال عون أن الوقت مناسب جدا للقفز على سدة الرئاسة الأولى التي يتمناها الجنرال، فله ولع مرضي وتاريخي بالكرسي الأول. كان يرى منذ زمن، أن رئيس الجمهورية التوافقي الذي انتخب، يكفي أن يكون هناك لمدة سنتين، وها هما السنتان تكادان تنقضيان، والوقوف إلى جانب الانقلاب لا بد له من ثمن سياسي، أكبر بكثير من وزارة هنا أو أخرى هناك، قبل ذلك بالطبع لا بد من تصفية ما للجسم المسيحي المخالف للجنرال وإخراجه - إن أمكن - من اللعبة، كي يصبح هو الممثل الوحيد والحصري للطائفة المسيحية، كما هو شريكه حزب الله الممثل الوحيد والحصري للطائفة الشيعية.

حيازة كل لبنان ووضع رئيس وزراء ليس له قاعدة كبيرة بقدر طموحه السياسي، لن يكون أكثر من أداة ظاهرية لمشروع أهم من محاربة إسرائيل وأهم من التوافق المجتمعي، إنه استيلاء على دولة لإكمال المحور الذي تحدث عنه السيد أحمدي نجاد من قبل في إطار لعبة الأمم.

السيد ميقاتي ربما يعرف، أو ربما لا يعرف، أنه يستخدم من أجل تحقيق ذلك المشروع لا غير، وأنه لا يستطع أن يخرج من الأجندة التي رسمت له وسيكون واهما في أن يصبح laquo;توافقياraquo; ذلك زمن مضى قبل لعبة الأمم الكبرى.

ما تقوله الدول بطريقة دبلوماسية للسيد ميقاتي، ليس له معنى في نهاية المطاف، فإخراج طائفة السنة من الحكم لن يخرجها من البلاد. ما سوف يتم هو إبعاد الاعتدال السني التقليدي، إلى أن ينمو بديل له وهو laquo;تشدد سنيraquo; ربما لم تعرفه لبنان في السابق، تحقيقا لنظرية سياسية معروفة أن laquo;كل تشدد يقابله تشدد مضادraquo;.

التعايش اللبناني الذي كان جسره السنة وطريقه الاعتدال، يبدو أنه تبدل قسرا الآن إلى تنافر مبني ليس على الطائفية ولكن على المذهبية الأقل ضيقا بالآخرين. كأن ما تم واجب التمام في ضوء كل المعطيات التي حدثت في السنوات الأخيرة، وكانت في جلها تطويع المفاهيم السياسية من أجل خدمة غرض واحد وهو الاستيلاء على السلطة وجعلها مطلقة في يد واحدة تأمر فتطاع.

هل هذه نهاية المطاف؟

لقد علمنا التاريخ أنه في كثير من الأوقات، تبدو ملامح الهزيمة في ظل رايات النصر، فهل يحدث ذلك في لبنان أيضا.

سوف ننتظر لنرى.