وائل مرزا

تجاوز العالم العربي، أو جزءٌ كبيرٌ منه على الأقل، مرحلة الإصلاح.
لم يعد ممكناً في كثيرٍ من الأقطار العربية إلا laquo;التغييرraquo; الجذري، أي التغيير من القمة.
أضاع الكثيرون عشرات الفرص التي كانت متوفرة للإصلاح في العقود الماضية.
عاندوا كل قوانين التاريخ، واستهانوا بكل سنن قيام الدول واستمرار المجتمعات.
كانت عبارات متعددة مثل laquo;نحنُ نختلفraquo;، و laquo;وَضعُنا غيرraquo;، و laquo;حساباتنا أكبرraquo;، و laquo;هذا لا ينطبق عليناraquo; تخلق سحباً كثيفةً من الأوهام التي تحكم تفكيرهم داخلياً بشكلٍ كامل. وكانوا يتصرفون في نهاية المطاف بناءً على ذلك التفكير.
لم يفهموا المعنى الحقيقي الكامن في مقولة laquo;إن الدنيا تتغيرraquo;. ورغم أن المقولة ذاتها تكررت ملايين المرات في الفضاء العربي خلال العقد الماضي، وأحياناً على ألسنتهم، إلا أن كل ممارساتهم تؤكد أنهم لم يفهموا مقتضياتها على الإطلاق.
لا يرى الكثيرون كيف تتشكل سنن التغيير وتنمو، خاصةً في مثل هذا العصر. وهي تتشكل وتنمو رغم كل شيء. تماماً كما ينمو الصغير أمام أعين أهله، وهم لا يلمحون نموّه على مستوى اليوم والأسبوع والشهر. ثم ينتبهون فجأةً إلى حجم النمو مع حدثٍ كبير يصدر عنه بشكلٍ من الأشكال. ربما كان هذا من عجائب الوجود البشري على هذه الأرض. حين تنطبق قوانين الاجتماع البشري على جميع وحدات المجتمع من أصغر وحدة إلى المجتمع بأسره.
ثمة صيرورة خاصة ودقيقة للتغيير في عصر ثورة الاتصالات والمعلومات، وربما كان ما يجري في مصر نموذجاً مثالياً عليها.
في تلك الصيرورة، يفتح النظام السياسي نوافذ صغيرة في البداية للتنفيس، ظناً منه أنها تستوعب التغييرات الثقافية والاجتماعية والاقتصادية التي تجري في المجتمع. وسرعان ما تبدأ المحرمات في التساقط، وتنحصر أطرها تدريجيا داخل دوائر تصغر بشكل مطّرد. تبدأ العملية على الصعيد النفسي ثم تنتقل إلى مستوى الأفعال والممارسات العملية.
ففي حين كان أفراد السلطة، خاصة على مستوى معين، يحسبون أنهم أقرب للآلهة، يدرك القائمون عليها تدريجياً أنهم بشرٌ من البشر وناسٌ من الناس. وبينما كان جهاز السلطة هيكلاً غامضاً قوياً يثير الرعب والخوف في نفوس الناس، يعود ليأخذ حجمه العادي، ثم يصير تدريجياً هدفاً للنقد والتندر والاستهزاء.
باختصار، تسقط laquo;الهيبةraquo; التي كانت حاجزاً نفسياً كبيراً يمنع أي حركة شعورية أو عملية تتعلق بالتغيير وإمكانياته.
كل ذلك يؤدي إلى شعور السلطة بأنها يجب أن تتغير. لكن قدرتها المحدودة، نفسياً وعملياً، على التغيير تدفعها إلى تقديم تنازلات بسيطة. رغم هذا، فإن مجرد شعور السلطة بأنها laquo;يجبraquo; أن تتغير يعني الكثير.
فتبعا لذلك الشعور تظهر laquo;تدريجياًraquo; سياسات وقوانين وممارسات وتقاليد جديدة. يسقط عامل الخوف بشكلٍ متزايد من القلوب، أقلّهُ على مستوى التعبير. تدرك شرائح أكبر من أبناء المجتمع أن لها حقوقاً، وتتجرأ بعضها على المطالبة بها. تظهر أساليب ووسائل وطرق جديدة ومبتكرة للمعارضة والمطالبة والحراك السياسي الشعبي.
وفي إطار laquo;الصراعraquo; الطبيعي داخل صيرورة التغيير، تقوم السلطة بإعاقة تطبيق بعض القوانين التي أصدرتها، وتصدر عنها ممارسات للتشويش على التغيير والإيحاء بصعوبته.
ومرةً أخرى. تُرسلُ تلك السياسات والقوانين والممارسات والتقاليد رسائل للمجتمع بأن هواءً جديدا يملأ الأجواء. والهواء الجديد دائما منعش، يملأ الرئتين ويدفع الجسم للحركة والنشاط.. ولكن بسبب افتقاد laquo;اللياقةraquo; العامة بعد طول سبات، تتحرك في جسم المجتمع الأجزاء الحيوية فيه على الأقل، ولا تلبث تلك الحركة بدورها أن تدفع السلطة لمزيد من التفاعل سلبياً وإيجابياً..
يزيد التفاعل الإيجابي من السلطة، مهما كان محدوداً، فعالية الهواء المنعش ويقوي تياراته. أما التفاعل السلبي فإنه يؤدي بالضرورة إلى احتقانات.. ووجود الاحتقانات، في صيرورةٍ تغييرٍ بدأت، ولا يمكن التراجع عنها نفسياً وسياسياً، يؤدي عادةً إلى توسيع دوائر الاحتجاج والرفض والمطالبة بالتغيير. وهنا يَخرج الأمر عفوياً من دوائر النخبة إلى قطاعات أوسع من الشعب.
ليس صحيحاً بإطلاق أن النخب السياسية المعارضة فشلت في تونس ومصر وغيرها من البلدان العربية. صحيحٌ أنها لم تمتلك القدرة على تقديم نفسها كبديل مؤهل على المستويين الداخلي والخارجي، وهي تحتاج بالتأكيد إلى إعادة النظر في فكرها السياسي والممارسة التي تنبثق منها، لكن حراكها وتضحياتها ساهمت بشكلٍ كبير وتراكمي في إنشاء وتطوير صيرورة التغيير التي نتحدث عنها.
لا يجب أن ننسى في تلك الصيرورة العامل الخارجي ودوره بطبيعة الحال. والمفارقة أن الرهان كان دائماً على ذلك العامل وطريقة التعامل معه بالنسبة للنظام السياسي العربي، وإن اختلفت تجليات التعامل المذكور. فسواء ظهر على شكل تحالفات أو على شكل ممانعة، كان الاعتقاد راسخاً بأن العامل الخارجي هو العنصر الأهم في المعادلة.
لكن هذا النظام نسي حقيقةً يُفترض بها نظرياً أن تكون واضحة. نسي أن الشعوب حين تصل إلى حافة الهاوية، وتعاني جوعاً قاتلاً في كل شيء، من الجوع إلى الخبز إلى الجوع إلى الكرامة، فإنها تصبح كالسيل الجارف لا تقف في وجهه سدودٌ ولا موانع. وعندما يحدث هذا فإن القوى الخارجية جاهزةٌ فوراً للبيع والشراء، بكل ما في هذه الجملة من دلالات لا تحتاج لشرحٍ أو تفصيل.
التغيير صيرورةٌ إذن، وليس قفزةً مفاجئةً في الهواء والتاريخ ليس لها مقدمات وأسباب. وهذا نموذج من نماذج صيرورة التغيير التي يبدو أنها تفرض نفسها في الواقع العربي المعاصر، نطرحها لمن شاء أن يتأمل..
وقد يكون مطلوباً بإلحاح الخروج من التركيز على رؤية التغيير كنتيجة، والانتقال إلى النظر إليها كصيرورة لها مقدماتها ومراحلها ومداها ودلالاتها ومداخلها المتنوعة. وإذا حدث هذا، فقد تختلف وتيرة صيرورة التغيير، لأن طبيعة ونوعية laquo;الفعلraquo; البشري تؤثر دائما في تلك الصيرورة، وتلعب دوراً رئيساً في صياغة معادلاتها على جميع المستويات.