أكرم البني


لم يلق الحديث عن أهمية الدولة العلمانية الذي أدلى به رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان لإحدى قنوات التلفزيون المصري رداً سلبياً أو رفضاً من الإسلاميين السوريين على اختلافهم، مثلما كان موقف الأخوان المسلمين في مصر وبعض القوى السلفية، بل على العكس بدت هذه الفكرة كأنها متّكأ للكثيرين ممن يحسبون على هذا التيار لإظهار تمايزهم والتذكير بشعارهم عن الدولة المدنية التي تقف على مسافة من جميع الأديان وتحتضن مواطنين متساويين في الحقوق والواجبات.

هل يرجع السبب إلى قربهم من تركيا وموقف حكومتها التي احتضنت عدداً من مؤتمرات المعارضة السورية ودعمت سياسياً ومعنوياً الانتفاضة الشعبية ونددت بالممارسات القمعية للنظام وقد أعياها تقديم النصائح له للخروج من الأزمة؟! أم يرجع إلى تنوع تركيبة المجتمع السوري وظاهرة التعددية القومية والدينية التي تميزه وتفرض على الإسلاميين السوريين خياراً مختلفاً؟!.

أم لتباين شروط النضال، بين تيارات إسلامية تعمل في مصر بطريقة غض النظر وحازت على رغم عدم الاعتراف الرسمي بها على عدد كبير من مقاعد البرلمان في الانتخابات قبل الماضية، وبين أطراف إسلامية محظورة في ســـورية تحـــت طائلة عقوبة الإعدام لكل منتمٍ إلى صفوفها، وتالياً بين قوى إسلامية تتحين الفرصة لقطف ثمار الثورة المصرية ولها مصلحة في الكشف عن وجهها الإيديولوجي ومطامعها السياسية، وأخرى لا تزال تكابد في صفوف الانتفاضة الشعبية في مرحلة من أشد مراحل تطورها حساسية وتحـــتاج من الزاوية البراغماتية لمواقف وشعارات تغازل هموم الجميع وتطمئن الأقليات على مستقبل التغيير في البلاد.

ثمة من يرجع السبب إلى ما يعتبره خصوصية مستجدة للقوى الإسلامية السورية التي بدأت تتمايز منذ سنوات وترسم لنفسها وجهاً يختلف عن الماضي وعن أخواتها في البلدان العربية الأخرى، ربما إقتداءً بنـــجاح النموذج التـــركــي الذي حفر عمـــيقاً في صفوفها وحفز نمو جماعات على صـــورته ومثاله، وربما بفعل المراجعة النـــقدية التي أجرتها وبدت أشبه بتحول نوعي طاول معظم مستويات نهجها السياسي، أهدافاً وآليـــات عمل ووسائل، وخلصت إلى الإقرار بأن الشعب هو مصدر السلطات وبالاحتكام لصناديق الاقتراع وتداول السلطة والاعتراف بمختلف مكونات المجتمع السوري واحترام حقوقها وحرياتها ومساواتها أمام القانون، مع رفض العنف وإدانته وتبنٍ واضح لأشكال النضال السلمي ولمبادرات صريحة تدعو الجميع للحوار والتشارك من دون أن تستثني السلطة السورية ذاتها، كمحاولة شجاعة لطي صفحة الماضي نهائياً.

ويجد أصحاب هذا الرأي أن ما أعطى هذه المراجعة دفعة كبيرة إلى الأمام أن غالبية قادة التيار الإسلامي وكوادره عاشت في المنافي وترك احتكاكهم لسنوات طويلة بالثقافة والحضارة الأوروبية بصمات مهمة على أفكارهم ومواقفهم، وقدم بعض دعاتهم اجتهادات واضحة في الدولة المدنية وشروط بنائها، تجعل مشاركتهم مصدراً لاغناء الحياة الديموقراطية وتمكينها، من دون إغفال أثر تجربة السجون ودورها في تعريف العديد من الكوادر الإسلامية على الأخر المختلف، ما ساهم في تغير سلوك الكثيرين منهم وتخفيف غلوائهم في فرض النمط الإسلامي وتشجيعهم على بناء الثقة بطرائق الحوار والتفاعل مع الآخرين وتفهم حقوقهم وخصوصياتهم.

يحق للبعض أن لا يثق بجدوى هذه المراجعة وجديتها وأن يثير شكوكاً حول صدق المواقف الجديدة لجماعات دينية تميزت تاريخياً بعصبيتها الإيديولوجية وبأساليبها الاقصائية والعنفية ولا تزال تحمل أسماء ذات مدلول طائفي تجعلها ساحة خصبة لنمو اجتهادات واندفاعات تهدد خيارها الديموقراطي، ويعتقد هذا البعض أن هذه القوى تضمر عموماً غير ما تظهر وإنها لبست رداء المدنية والديموقراطية لإعادة بناء جسور التواصل وقطف ثمرة الاعتراف بها شعبياً وسياسياً بعد هزيمتها المرة في مطلع الثمانينيات، محذراً من مستقبلها وبأنه لن يمر وقت طويل حتى تتكشف حقيقتها كما حال مثيلاتها في مصر وتعود حليمة لعادتها القديمة لتطلق مشروعها السياسي الديني وما يترتب على ذلك من نتائج خطيرة ومدمرة.

لكن، مع أخذ ما سبق بعين التفهم وتوخي الحذر واليقظة في التعاطي مع مسألة تحوز هذه الحساسية الخاصة، من العدل والإنصاف القول إن الرصد الموضوعي لقوى الانتفاضة السورية يكشف اليوم حضوراً ملموساً لأوساط من المتدينين والإسلاميين يتصدون ببسالة للاستبداد ويجاهرون بدعوتهم لاحترام الآخر والتسامح والحرية وحقوق الإنسان ويظهرون صدقاً في رفضهم للعنف واستغلال الإسلام كأداة للوصول إلى السلطة والاستحواذ عليها، ما يشير بالفعل إلى حضور محتوى جديد، فكرياً وسياسياً، للخطاب الإسلامي تحمله جماعات شبابية لا تسيرها قيادات أو مواقف إيديولوجية محددة، ترى في عقيدتها الدينية ما يدعم قيم العدالة والتعددية والتمثيلية السياسية وما يقطع مع فكرة الدولة الإسلامية ومع التوجهات القديمة والأساليب القسرية والتسلطية التي حاول الإسلاميون من خلالها نشر معتقداتهم وآرائهم على أنها الحقيقة المطلقة، ولا يغير من هذا المشهد استناد المحتجون إلى بعض الهتافات والطقوس الدينية أو الاختيار الرمزي ليوم الجمعة واعتماد المساجد محطات لانطلاق التظاهرات.

والأهم أن بعضاً من هؤلاء يعتقدون بأنهم يقفون اليوم أمام مسؤولية مزدوجة ليس فقط دورهم فـــي عملية التغيير السلمي بل في إثبات صدقيــتهم بأنهم سيحافظون على خيار الدولة الديـــموقراطية والعلمانية ولن ينساقون كغيرهم وراء برامجهم وحساباتهم الذاتية ويسوغون لأنفسهم قطف ثمار الانتفاضة الشعبية، بل هم لا يترددون في رفض سياسة الأخوان المسلمين والتيارات السلفية في مصر وإدانة نهجهم الاستئثاري، لأنه يلحق ضرراً بالغاً في مسار الثورات العربية وهـــويتها المدنية، ولن يجعل الزمن laquo;زمناً إسلامـــياًraquo; كما يأملون بل زمناً لتعزيز الانقسامات والانشغـــال باحـــتراب داخــلي يطــيح مشاريع الــبناء والــعدالة والتــنمية الديموقراطية التــي ثــار النــاس مــن أجلها.

لا أحد يرغب في رؤية المزيد من الانتكاسات السياسية والاحتقانات الاجتماعية في الحالة السورية، أو المزيد من الفرز والاصطفاف الديني أو الطائفي أو القبلي، وأن يكون لهذه التكوينات ما قبل الدولة دوراً رئيساً في تحريك الحياة السياسية، ولا أحد يرغب في رؤية هواجس ومخاوف تتنامى لدى الناس من تحولات دراماتيكية تحدث خللاً بنيوياً في البلاد قد يكون مدمراً، لكن ثمة من يأمل وربما هو واثق بأن التجربة السورية ستحمل جديداً وتشكل بانتفاضتها فاتحة لحركات تغيير تثبت بالملموس قدرة الإسلاميين والشباب المتدين على تبني قيم الحرية والدولة المدنية وعلى المشاركة بالدور التاريخي لتجاوز العجز الديموقراطي الذي يسم المجتمعات العربية، والبدء ربما من الحقل السياسي هذه المرة، لإكمال دورة الإصلاح الديني الذي قطعت أنظمة الاستبداد أوصاله.