علي الغفلي

لايزال النظام الحاكم في سوريا يبدي تماسكاً كبيراً، وذلك على الرغم من مرور أكثر من ستة شهور على الاحتجاجات الشعبية في كافة المدن الرئيسة في البلاد . ومن الواضح أن تماسك نظام الحكم في سوريا هو مدعاة للقلق الشديد، وذلك بسبب التكلفة الدموية التي يفرضها بقاء النظام وتشبثه بالسلطة على الشعب، خاصة بعد سقوط نحو ثلاثة آلاف قتيل، إضافة إلى الآلاف من الجرحى والمعتقلين . لا أحد يعلم على وجه التحديد حجم التكلفة البشرية التي سوف يتعين على الشعب السوري دفعها في سبيل تحقيق هدف إزاحة نظام الأسد من الحكم، ولكن البطش الصارم الذي يمارسه النظام في مواجهة الثورة الشعبية من جهة، وعدم تمكن الشعب من تحقيق اختراقات واضحة في طريق زعزعة النظام من جهة أخرى، يحملان نذر ضخامة التكلفة البشرية التي سيتكبدها السوريون في المحصلة النهائية .

إن نظام الأسد صامد، ولكنه صمود مؤسف وفي غير محله، بل هو صمود مشؤوم . عن أي شيء يدافع نظام الحكم بعد أن يفقد مضامين الشرعية في أذهان غالبية الشعب؟ وعلى أي أساس يستمر هذا النظام، يعتقد أن بإمكانه تفادي المصير الذي لقيته أنظمة حكم الاستبداد في تونس ومصر وليبيا بعد أن فشلت في الوقوف في وجه غضب شعوبها؟ والأدهى من ذلك، كيف يجرؤ نظام الحكم الذي استعدى الشعب، وأعمل فيه آلات القتل والتدمير طيلة عدة شهور، على الاعتقاد أن بإمكانه العودة بالأوضاع إلى سابق عهدها والاستمرار في ممارسة سلطة الحكم؟ إن هذه الأسئلة محيرة، وكذلك الحال بالنسبة لكافة الأسئلة التي تحاول أن تفهم الصراع بين حكم الاستبداد وإرادة الشعوب . يمكن لمحاولات الإجابة عن مثل هذه الأسئلة أن تؤدي إلى الخوض في مسائل الفكر السياسي، وهي مسائل شديدة التشويق، ولكن هذا المسار سوف يثمر عن مجرد ردود متنافسة، لا تشكل في مجملها إجابات شافية أو مستقرة . وبالإمكان تناول هذه الأسئلة من خلال مسار آخر، يستند إلى فهم المعطيات الواقعية التي تكتنف الانتفاضة الشعبية في القطر السوري، ولن تخلو مثل هذه المعالجة بدورها من العديد من العناصر المثيرة للأسى والقلق .

يفرض نجاح نظام الاستبداد في الصمود أمام الثورة الشعبية، بالكيفية الموضوعية والزمنية التي نشاهدها في سوريا، الاستعداد لقبول احتمال صادم، مفاده أننا أمام نظام حكم قوي وثورة شعبية ضعيفة . يجب ألا ترقى هذه المقولة إلى مرتبة الاستنتاج، ليس في الوقت الراهن على الأقل، وهي في أفضل الأحوال مجرد محاولة مبدئية لتقديم فهم مؤقت للصعوبة الذهنية التي تواجهها مهمة تفسير جمود أوضاع ثورة الشعب السوري في مصلحة نظام الأسد، على الأقل حتى الآن . إن القبول المبدئي لهذه الفكرة يستدعي التفكير في الأسباب التي تسهم في قوة صمود النظام وضعف ثورة الشعب، وذلك في إطار واقع الحال الذي يمكن تلخيصه بمواجهات الإرادة والبقاء بين نظام الأسد وشعب سوريا .

وفق هذا المنطلق، فإن بإمكان نظام الحكم في سوريا أن يستند إلى تماسك قوى الجيش بشكل كبير وعدم تطور الانشقاقات فيه إلى إحداث انقسام كبير، الأمر الذي يبقي شبح الحرب الأهلية بعيداً عن سوريا . إن ابتعاد سوريا عن سيناريو الحرب الأهلية يعد أمراً حسناً، ولكنه في الوقت ذاته يبقى سياق الأحداث في البلاد تحت سيطرة نظام الحكم الذي يستمر متمتعاً بالقدرة على تقرير درجة وتوقيت استخدام القوات العسكرية في كبت الشعب كيفما يشاء . وفي المقابل، فإن فرص الشعب السوري في التخلص من النظام الحاكم سوف تبقى أقل بكثير من الفرص التي توفرت لدى الشعب الليبي، الذي دفع تكلفة الحرب الأهلية التي مهدت لها الانقسامات التي حدثت في صفوف الجيش في وقت مبكر من الثورة الشعبية ضد نظام القذافي . أبعد من ذلك، سوف تظل فرص الشعب السوري في إزاحة نظام الأسد أقل بكثير من نظيراتها التي توفرت للشعبين التونسي والمصري، اللذين حظيا بمواقف مشرفة للجيشين التونسي والمصري بشكل عام، تراوحت بين الحياد من الثورة، وحمايتها، واحتضانها .

وتسهم المواقف الدولية في الوقوف في تحجيم فرص نجاح الشعب السوري في تحقيق هدف إسقاط النظام الحاكم، أو تأخير أجل تحقيق هذا الهدف . لقد استفاد نظام الأسد من تلكؤ المجتمع الدولي في التعامل مع إجراءات القمع التي ظل السوريون يكابدونها منذ شهر مارس/آذار على يد الجيش، الأمر الذي ساعد هذا الأخير على اتقان ممارسات التعامل مع المتظاهرين المسالمين، من قبيل مداهمة صفوفهم، وتفريق مجاميعهم، وإبطال زخمهم الجماهيري، وقتلهم، واعتقالهم، باستخدام كافة أشكال القوة المفرطة .

في الوقت الذي يصح الاعتقاد أن لجوء نظام الأسد لسلاح الطيران الحربي ضد المتظاهرين سوف يشكل الحد الفاصل بين تردد المجتمع الدولي وتدخله العسكري في الشأن المحلي السوري، فإن نظام الأسد يدرك تماماً المحاذير التي تصاحب هذه الخطوة ولذلك فإنه يحجم عن الإقدام عليها بشكل منتظم، الأمر الذي ينفي عن الثورة الشعبية في سوريا سيناريو التدخل العسكري الدولي بالكيفية التي حدثت في حالة ليبيا . وفي الوقت الذي يمكن أن ترتفع معنويات الشعب السوري بسبب تناول مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة قرار فرض العقوبات الدولية على نظام الأسد، فإن ممانعة كل من موسكو وبكين لهذا القرار تثير احباط الشعب السوري بكل تأكيد . المحصلة هي أنه ليس بمقدور السوريين التعويل على المناصرة الدولية لمطالب تغيير النظام الحاكم، سواء في صورة التدخل العسكري أو بواسطة المساندة السياسية . يتعين على أصدقاء الشعب السوري التفكير بشكل مبتكر والتصرف بشكل مختلف من أجل تقديم المساعدة التي يستحقها إليه .