عز الدين عناية
عرف الوعي الديني التونسي تصدعا واضطرابا خطيرين, جراء ما ألم به إبان عهد بن علي وما خلفه أيضا عهد سلفه الحبيب بورقيبة. إذ فُرضت حالةٌ عُصابيةٌ على أذهان الناس طيلة عقود, اشتدت حدتها حتى أفرزت شرائح دينية انتهازية وفكرا دينيا خاملا. وبالقدر الذي تجلى عبره الاضطراب في مُدعي الحداثة والعقلانية, ممن جلبتهم المغانم, تجلى أيضا في فقهاء السلطان, ممن أغراهم التهافت على بقايا مؤسسات دينية متداعية, حتى تحول الفكر الديني إلى ضرب من التزلف الموبوء.
فقد سيَّست السلطة, في عهد بن علي, حقلَ الفكر الديني بجميع مقارباته, التاريخية والشرعية والاجتماعية, إلى أن بات أي اشتغال فكري أو علمي بالدين -ما لم يعلن صاحبه ولاءه التام لصَنمية الزعامة, ومقاومة quot;الاخوانجيةquot;- مغضوبا عليه وفي عداد التهمة والشبهة. وقد دأبت السلطة على استقطاب الكتاب والشعراء والفنانين والمثقفين العائمين, الذي لا هُم إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء, ليس لتكريمهم بل لجرهم معها إلى المستنقع الآسن, حتى تكتسب بهم مسحة مشروعية. أفرز ذلك الاستقطاب مفكرين في الإسلاميات وشيوخا في الشرعيات, ما كان ليغْدو لهم ذكر أو ليعْلو لهم كعب لولا الحصار على الفكر الديني الخارجي والترصد بالمنتوج الداخلي.
فلكم صعدت السلطة البائدة إلى منبرها العتيد quot;منتدى الفكر السياسي للتجمع الدستوري الديمقراطيquot; من quot;الخبراءquot; ممن شغلتهم ستراتيجيا quot;تجفيف المنابعquot;, وكان كل من يقبل بالمشاركة في تلك الملهاة يُمنح وسام الاستحقاق والمكافأة, بتكليفه برعاية مؤسسات تونس, الفنية والثقافية والإعلامية والأكاديمية والإشراف عليها. وأُكملت تلك الحلقة من تلويث الحقل الديني بتشكيل quot;المجلس الإسلامي الأعلىquot;, بيت الطاعة الديني, حتى يشهد العلماء شهادة زور على فلاح وصلاح نظام 7/11.
على مدى عقدين تراجعت تونس تراجعا لافتا, في مجال الأبحاث والإنجازات والدراسات في حقل الفكر الديني, سواء ما عاد منه إلى العلوم الشرعية, أو إلى العلوم الاجتماعية والإنسانية, التي تتناول الظواهر والأحداث التاريخية والوقائع الحياتية المتعلقة بالدين. لقد استنزف الفكرَ الديني التونسي, طيلة تلك الحقبة, ضربان من القضايا: انشغل فيها الحداثويون المزعومون بحل قضايا مثل الرق, وتعدد الزوجات, والإرث, والحجاب, والسلفية, وسباب الأصولية والتطرف, التي جعلوا منها الشغل الشاغل للمثقف التونسي. وكان الصواب أن يتجاوزوها إلى البحث عن كيفية تحصين مستقبل البلد من الطغيان السياسي الذي يتهدده, وإخراج تونس من التخلف الحضاري والعياء الثقافي, الذي داهمها منذ أواخر العهد البورقيبي. وأما وكلاء العلوم الشرعية فقد انشغلوا بالحديث عن التسامح والتفتح والوسطية والتيسير وسباب الأصولية والتطرف كذلك, وغالبا ما استبطن قولهم في تلك القضايا نفاقا لا صدقا, حتى بات الخطاب الديني متبلدا سطحيا, لا نكهة ولا لون له, داخل المسجد أو خارجه.
وبفكاك التونسي من ربقة تلك الديماغوجيا التي أسرته عقودا, بات اليوم من واجب الأكاديمي, المنشغل بالسؤال الديني, أن يصحح مساراته, ويهجر البحث في المواضيع التي لا تُجدي نفعا ويتوجه إلى البحث في المواضيع العملية, وأن يتجادل مع واقعه ويتمعن في عالمه, حتى تَخرج المؤسسات الأكاديمية من أوهام استبدت بها. فالفكر الديني اليوم مطالب أن يطرح على نفسه سؤال ما الذي يستطيع أن يقدمه إلى المجتمع التونسي, ليدفع به نحو مصاف الشعوب المتحضرة? والمقصد الأعلى للدين يصدُق عليه قول المسيح (ع): quot;ما جُعل الإنسان لخدمة السبت وإنما جُعل السبت لخدمة الإنسانquot;. إذ ينبغي على الفكر الديني التونسي أن يسعى جاهدا في إنتاج مفاهيمه, وأن يجد أجوبة لإشكالياته من داخل حقله. ولن يتأتى له ذلك إلا بالخروج من الإشكاليات الغيبية التي استفرغ فيها جهده إلى الإشكاليات الحياتية التي تنتظره, فوَرْشة سوسيولوجيا الإسلام تبدو عامرة بعديد المسائل التي تنتظر التناول. ذلك أن جل الكتابات الدينية التي راجت في تونس خلال العقدين السالفين بالأساس, غلب عليها طابع quot;الردودquot;, وليست من صنف الكتابات الرصينة أو العلمية التي أضافت شيئا. وقد انجر أسماء لهم صيت في ذلك الجدل العقيم مثل: محمد الشرفي (الإسلام والحرية/الالتباس التاريخي), وعبدالوهاب المؤدب في كتابه (أوهام الإسلام السياسي), ومحمد الطالبي في كتابه (ليطمئن قلبي).
وفي خضم ما هز وعي المجتمع التونسي من تصدع, زُج بالجامعة الزيتونية في متاهة الصراع بين quot;النهضةquot; وسلطة بن علي, خصوصا مع العشرية الأولى من حكم الرئيس الفار, جر ذلك الحشر الويلات على معقل علمي عريق, حتى بات المنتسب إلى تلك الجامعة تهمة ومسبَّة. في البداية خضع الزواتنة (نسبة الى جامعة الزيتونة) إلى تصفية وغربلة, ثم أُوصدت الأبواب أمامهم مع مطلع تسعينات القرن الماضي, جراء احتدام الصراع بين حركة النهضة ونظام بن علي, الذي عَد الزيتونة المعقل الإيديولوجي لحركة مطارَدة وملاحَقة بغرض التصفية.
وبعد أن وجد الزيتوني نفسه في العراء التام أمام حاكم غشوم, تبين له أن العتاد العلمي الذي في حوزته بائر. طُرحت حينها أسئلة وجودية عميقة, على جيل الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي: هل لخريج العلوم الشرعية موضع في مجتمع دبت في أوصاله تحولات كبرى ما لم تستوعبه المؤسسة الرسمية في أحشائها? حينها استفاق العقل الزيتوني أن عنعنات الأربعين حديثا النووية, التي أرهق بها الشيوخ طلابهم رواية ودراية, قد باتت من سقط المتاع.
وبالتالي, في زمن الانفراج يغدو من الملح التحريض على ظهور إنسانوية تعيد قراءة التراث الزيتوني والتاريخ الزيتوني. فهناك مدونات ومخطوطات فقهية وشرعية وحضارية هائلة, تراكمت عبر القرون, تستدعي النظر, علنا نخلص من خلالها إلى مظاهر تجليات العقل الديني التونسي. إذ لم تشهد الزيتونة عبر تاريخها مراجعة حقيقية لدورها كمؤسسة, ذلك أن القراءات التاريخية المعرفية شحيحة وحتى الآن لم تغط سوى جوانب ضئلية من نشاط المؤسسة ومن تجليات العقل الزيتوني. فما ميز الشذرات المتوفرة عن تاريخ الزيتونة, خضوع جل الكتابة فيه للرؤية المحابية أو الرؤية المجافية, التي غالبا ما حولت النظر في العقل الزيتوني إلى بكائيات على مآلاته, بفعل الجراحات التاريخية الغائرة, أو بشكل مغاير حولته إلى ادعاءات زائفة بعلو إنجازاته, باستثناء أعمال قليلة أنارت بعض السبل: مثل quot;أليس الصبح بقريبquot; للشيخ محمد الطاهر بن عاشور, أو quot;الجامعة الزيتونية والمجتمع التونسيquot; لمحمود عبد المولى, أو quot;الزيتونيون ودورهم في الحركة الوطنية التونسية 1904-1945quot; للدكتور علي الزيدي.
قديما ورد في سفر أرمياء: quot;الآباء يأكلون الحصرم والأبناء يضرسونquot;, ومن هذا الباب يبقى العقل الديني في حاجة إلى قراءة متأنية شاملة لإنتاجاته وتجلياته عبر التاريخ, حتى تُميز لوامعه الصادقة من بروقه الخادعة, وحتى يكف الفكر الديني الخامل عن استحضار تهويماته القديمة.
التعليقات