محمد نور الدين
قيل الكثير عن عودة تركيا إلى الشرق، مع أنها في الأساس لم تغادره . لكنها كانت في المقلب الآخر من تطلعات شعوبه ونضالها من أجل التحرر من الهيمنة الخارجية والخطر ldquo;الإسرائيليrdquo; الذي زرعه الغرب في قلب منطقتنا العربية والإسلامية .
عندما وصل حزب العدالة والتنمية عام 2002 كانت بداية الانقلاب التركي على سياسات هذا الاندماج الكلي بالغرب وrdquo;إسرائيلrdquo; . وارتفعت عناوين مثل تعدد الأبعاد، وتصفير المشكلات، والبلد المركز لا الطرف، والقوة الناعمة، وفتح الحدود، وكلها اجتمعت تحت عنوان مركزي هو ldquo;العمق الاستراتيجيrdquo; .
بهذه العناوين الجديدة والمثيرة والجذّابة أمكن لتركيا إحراز نجاحات نوعية في سياساتها الخارجية كما مع جوارها العربي والإسلامي، وكذلك مع قوى أخرى مثل روسيا واليونان وحتى، في لحظة ما، مع أرمينيا .
في البعد العربي كان النجاح التركي شاملاً، تعاون ممتاز مع إيران، تعاون استراتيجي مع العراق، تعاون استراتيجي استثنائي مع سوريا، علاقات جيدة مع السعودية، وممتازة مع قطر والإمارات وليبيا القذافي، وفي الوقت نفسه كانت أنقرة تتقدم في سياسات متعارضة مع سياسات واشنطن في العراق وفي إيران وفي فلسطين وغيرها .
بمثل هذه السياسات كان الدور التركي يتقدم، وكان التأثير التركي يكبر، وكان موقع تركيا يتعزز في الشارع العربي، وبقدر ما كانت تتفاعل تركيا إيجاباً مع قضايا شعوب المنطقة، كانت صورتها تلمع والعكس صحيح .
مع بدء الثورات العربية وربما قبلها بعدة أسابيع، بدأت صورة تركيا تهتز في أكثر من بلد وشارع . بدأ الاهتزاز في شوارع ldquo;الدول المعتدلةrdquo;، لكنه ما لبث أن امتد وكان شاملاً في شوارع محور ما يسمى بالممانعة والمقاومة، وهي تمثل الحزام الجغرافي المباشر لتركيا من سوريا إلى العراق وإيران ونصف الشارع اللبناني .انتقلت العلاقات مع هذه الدول إلى حالة من التوتر والحساسية ربما قاربت العداء في الحالة السورية .
لا يكفي أن نقول إن ارتباكات السياسات التركية ناتجة عن أنها لم تكن مستعدة للتحولات العربية ولا سيما في سوريا، أو أنها قد تفاجأت بها، هذا واقع لا شك، لكنه لا يكفي وحده لتفسير اهتزاز سياسة حسن الجوار .
سأعرض باختصار ما أعدّه معايير لقياس مدى تطبيق سياسة ldquo;حسن جوارrdquo; بين تركيا والدول المجاورة، ولا سيما الجوار العربي والإسلامي .
1- عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول سواء بين النظام ومعارضيه أو بين القوى الداخلية بالوقوف إلى جانب طرف ضد آخر . إن اعتبار الشأن الداخلي في بلد ما شأناً داخلياً لبلد آخر، مرتبط فقط بمدى تهديد تلك الأحداث في بلد الأمن القومي للبلد الآخر . وإن القول إن التدخل لغايات إنسانية، لم يكن سوى ذريعة للتدخل السياسي وتغيير الأنظمة والخرائط .
2- الإدراك الكامل للحساسيات الدينية والمذهبية والإثنية والمناطقية في المجتمعات المجاورة، والامتناع عن اتخاذ مواقف تفاقم هذه الحساسيات، خصوصاً إذا كانت البنى وبالتالي المخاوف الاجتماعية واحدة في تركيا وهذه البلدان .
3- فهم المسار التاريخي للبلدان المجاورة وعدم القفز فوق الشروط التي تحكم مسار التطور فيها، وإدراك أن لكل بلد خصوصية مختلفة عن الآخر . قد يكون التغيير في بلد ممكناً في سنة وفي بلدان أخرى في عشر سنوات، فعملية الانتقال إلى الديمقراطية في تركيا لاتزال مستمرة منذ 65 عاماً ولم تنته بعد .إن تجاهل هذه الشروط أو تجاوزها يفضي دائماً وليس غالباً إلى نتائج كارثية تطيح بالإصلاح وبالبلد وتشكل خطراً على جيرانه .
4- الاحترام في العلاقة، بحيث لا يتم التعاطي مع الآخر لا بفوقية واستعلاء، ولا بمنطق الأستاذ والتلميذ . لكل بلد كرامته وحدوده، ولكل مجتمع ارثه الثقافي الناصع وشخصيته المعتدة بتاريخها .
5- احترام الضوابط في العلاقات الدولية، ومهما بلغت روابط الدين والعرق والمذهب والقربى بين الدول والعلاقات الشخصية بين الزعماء، هناك ضوابط وسقوف في العلاقات الدولية لا يجوز تجاوزها .
6- التكافوء في العلاقات بين الدول، فمهما بلغ شأن الاعتبارات السياسية والعاطفية ودورها، فإن العلاقات معرضة للانهيار إن لم تلحظ حماية المصالح العملية لكل جانب على مختلف المستويات الاقتصادية والأمنية وغيرها، وألا تكون أية اتفاقيات لمصلحة طرف على حساب طرف آخر .
7- إدراك التوازنات الإقليمية والابتعاد عما يمكن اعتباره لدى الآخر بأن هناك سعياً لتغيير هذه التوازنات لمصلحة طرف دون آخر . إن السعي إلى تغيير الخرائط والتوازنات هو المدخل الأسهل للفتن والحروب وانهيار سياسات حسن الجوار . إن المنطقة العربية والإسلامية لا تتحمل سياسات هيمنة طرف على آخر . لا يمكن لإيران أو تركيا أو أية دولة عربية أن تهيمن على المنطقة . إن سياسات الهيمنة من أي طرف وتحت أي شعار كان، مرفوضة تماماً لأنها لن تكون سوى سبب للفتن والحروب التي سيخرج الجميع منها خاسرين . أساس حسن الجوار ليس التنافس والهيمنة وإلغاء أو إضعاف الآخر، بل الشراكة .
8- التحديد الدقيق للتحديات والتهديدات الخارجية المشتركة التي تواجهها الجغرافيا العربية والإسلامية، والتمييز بين التهديدات المرحلية وتلك الدائمة، والإشارة بوضوح إلى أن التهديد والتحدي الأكبر للمنطقة يأتي من سياسات الغرب التي تهدف إلى السيطرة على المنطقة لنهب ثرواتها وتقسيمها وبالشراكة مع رأس حربته ldquo;إسرائيلrdquo; . إذا اجتمعنا على هذا التشخيص سيكون لسياسات حسن الجوار بين تركيا وجوارها العربي والإسلامي مكانها ومعناها وثباتها على الأرض .
9- الامتناع عن سياسات مزدوجة المعايير، معايير معينة مع جار ومعايير أخرى مغايرة مع جار آخر .الديمقراطية مطلب عادل في سوريا لكن لا يمكن الدعوة إلى الديمقراطية في سوريا والامتناع عن الدعوة إليها في بلد آخر .أو أن تدعو إلى حظر طيران في ليبيا لحماية المدنيين لينتهي الحال إلى غزو أطلسي وتدمير البلد وستين ألف قتيل .
كما لا يمكن أن تسعى إلى الدخول إلى الاتحاد الأوروبي فيما تصف الحضارة البيزنطية بالحضارة السوداء .
لا يمكن أن تقول إنك جزء من البلوك الغربي فيما تدعو إلى عمق استراتيجي مع العرب والمسلمين .
إذا اقتصرنا على هذه العناوين أو المعايير وحاولنا تطبيقها على سياسة حسن الجوار التركية، ربما نتلمس بوضوح أين أخطأت تركيا وأين أصابت، وأين أخطأ الجيران وأين أصابوا .
ليس من حق أحد أن يدّعي أنه على حق وصواب في كل ما يقوم به، فيما الآخر على خطأ في كل ما يقوم به، لكن الأهم أنه بقدر ما تكون تركيا جزءاً من جبهة حماية وحدة المنطقة وهويتها وتنوعها ومقاومة التهديدات الخارجية الغربية، تكون بذلك تحمي نفسها ومستقبلها وليس العكس .
التعليقات