عادل الطريفي

في يوليو (تموز) 1929، نشر المؤرخ البريطاني الشهير أرنولد توينبي مقالة بعنوان laquo;مشكلة رجل الدولة العربيraquo;، تحدث فيها عن القلاقل السياسية التي كانت تعصف بالجزيرة العربية في العشرينات من القرن الماضي، وكيف أن المصالح البريطانية قد تضررت من الغارات والحروب التي نشبت بين عدد من الزعامات المناطقية والقبلية، وقد لخص توينبي الأزمة بعدم توافر مواصفات (رجل الدولة states man) أي الزعيم السياسي المحنك القادر على الترفع عن الخصومات الشخصية، وتغليب المصالح، والمواءمة بين ثقافة المنطقة وتقاليدها، وبين القوى العظمى لبناء دولة حديثة.
بيد أن توينبي استثنى الملك عبد العزيز آل سعود؛ لأنه، من بين زعماء المنطقة، الوحيد الذي يتمتع بهذه المواصفات المطلوبة لملء فراغ الزعامة في الجزيرة العربية؛ حيث يقول: إن laquo;ابن سعود قد أصبح - بالفعل - أحد أعظم رجال الدولة في التاريخ العربيraquo;. كما ينبه توينبي إلى أن تركيز المؤلفين والمعلقين على الطبيعة الدينية لمشروع دولته فقط يحجب عنهم رؤية ما لا يقل أهمية عن البعد الديني، وهما عاملا الحصافة السياسية والاقتصاد.
يرى توينبي أن العامل الديني كان سببا رئيسيا لاستمرار الدولة السعودية في أطوارها الثلاثة، لكنه يعزو النجاح السريع للملك عبد العزيز إلى مؤهلاته الرئيسية كرجل دولة من الناحيتين السياسية والاقتصادية، لقد كان يريد أن يكسب خصومه لا أن يهزمهم، ويرى أن من واجبه رعاية مصالحهم الاقتصادية لكي يفوز بولائهم، ويحقق التوافق بينهم ليضمن وحدتهم داخل دولة مدنية حديثة. إنه من الضروري العودة إلى ذلك التاريخ اليوم؛ لأننا شهدنا خلال العقدين الماضيين انتشارا لطروحات وكتابات أكاديمية تجادل بأن laquo;النموذج السعوديraquo; في الحكم وإدارة الدولة والمجتمع لم يعد ملائما للمتغيرات الحديثة، وأغلب أصحاب هذا الرأي يقولون إن المجتمع السعودي قد تغير عمَّا كان عليه قبل ثلاثة أو أربعة عقود، وعليه فإنه سيخضع بالضرورة إلى شروط التغيير الاجتماعي التي تعرضت لها بلدان أخرى في المنطقة.
لقد كان من الصعب مناقشة هذه المسألة في الماضي؛ لأنه لم يتم اختبارها من جهة، ثم إن الحجة التي تستند إليها غير دقيقة، فإذا كان المجتمع السعودي قد تغير نحو التطور والانفتاح على العالم الخارجي فذلك بفضل سياسة الحكم، وحسن إدارة الدولة خلال العقود الماضية. في اعتقادي أن النموذج السعودي في الحكم قد برهن خلال الأعوام الثمانين الماضية على متانة أسسه، وجذور استقراره في وجه التحديات الداخلية والخارجية من الحرب العالمية الثانية، ومرورا بالحرب الباردة، وبوجه المدَّين القومي والبعثي، وانتهاء بالحرب على الإرهاب.
اللافت في التجربة السعودية أنها لم تشهد تراجعا في أي من مراحلها، بل كانت تتقدم سياسيا واقتصاديا بشكل مطمئن وواثق. خذ على سبيل المثال الزلزال الذي ضرب المنطقة العربية هذا العام، وكيف تهاوت أنظمة ورؤساء مستبدون، ولم تغن عنهم أجهزتهم الأمنية، ولا أموالهم الوفيرة في البنوك الأجنبية شيئا؛ لأن شرعية الحكم لم تكن موجودة، ولأن علاقة الحاكم بالمواطن لم تكن إنسانية.
لقد سارع بعض الكتاب الغربيين والعرب إلى التحذير والتهويل مما يمكن أن يحدث في السعودية قياسا بالأنظمة الأخرى، ولكن لم نشهد إلا التوافق الحقيقي والالتفاف حول شرعية الحكم في السعودية. هذا لا يعني أن السعودية بلد غير محتاج للإصلاح السياسي الدائم، أو منزه عن الأخطاء، فلقد كانت هناك لحظات صعبة، ووقعت أخطاء، وربما قصرت بعض الطموحات والآمال في بعض الجوانب، لكن التاريخ السياسي والاقتصادي للبلد يبرهن في كل تحدٍّ على قدرته على تجاوز المعوقات، ولعل السبب الرئيسي في ذلك هو أن بيت الحكم السعودي لا يزال قادرا على صناعة رجال دولة بحجم مسؤوليات ودور السعودية الإقليمي والدولي. في هذا السياق، يأتي اختيار خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز للأمير سلمان وزيرا للدفاع استمرارا لسياسة اختيار laquo;رجل الدولةraquo; الأصلح والأكفأ للاضطلاع بالمهمات الرئيسة. لقد عمل الأمير سلمان بن عبد العزيز لأكثر من خمسة عقود laquo;رجل دولةraquo; معنيا ببناء وتطوير العاصمة السعودية، بحيث حولها من مدينة صحراوية صغيرة إلى عاصمة حديثة تضاهي كبريات العواصم العالمية اتساعا وتنظيما.
وقد كان للأمير سلمان مواقف وأدوار أسندها إليه ملوك السعودية ثقة به وللمواصفات الإدارية والشخصية التي يتمتع بها، فهو يحظى باحترام وإعجاب قل نظيرهما بين مواطنيه حتى بات يوصف بأنه رجل الحكمة والمرجع في حل الخلافات ودعم المبادرات الخيرية والإنسانية.
المتابعون للشأن السياسي السعودي يدركون حجم الملفات المهمة التي اضطلع بها منذ وقت مبكر، وحجم العلاقات الشخصية التي نسجها مع قادة سياسيين وشخصيات عالمية بغرض دعم مصالح المملكة وقضاياها في الخارج. بيد أن أهم ما يميز الأمير سلمان في نظر النخبة السعودية هو أنه laquo;رجل دولةraquo; بكل ما لهذه الكلمة من معنى، وسيكون لهذا انعكاس واقعي بانضمامه إلى مجلس الوزراء السعودي وزيرا لواحدة من أهم المؤسسات السيادية في البلد. يضاف إلى هذا مقدار كبير من الاطلاع التاريخي والثقافي الذي ميز الأمير سلمان في أوساط النخب الثقافية والصحافية في السعودية، حتى إنه يعد أحد المراجع الموسوعيين في تاريخ الدولة السعودية ورجالاتها. ليس هذا فحسب، فخلف كل هذا القدر الكبير من المسؤوليات والتاريخ الحافل بالإنجازات هناك شخصية راقية، ومتواضعة مع الكبير والصغير. فحينما بدأت الكتابة قبل أعوام نشرت مقالا عن قضية سياسية عربية، وقد فوجئت آنذاك حينما نقل لي من الأمير سلمان رسالة يشجعني فيها، ويحضني على مواصلة الكتابة، حتى إنه بعث إليَّ بكتاب في الموضوع لأقرأه.
وفي مناسبة أخرى كتبت مقالا ذكرت فيه جانبا من تاريخ الملك فهد - يرحمه الله - في جريدة laquo;الرياضraquo;، فاتصل بي رئيس التحرير، الأستاذ تركي السديري، ليقول إن سمو الأمير كتب تعليقا لينشر في الصحيفة ذاتها، وحين نشر التعليق كان في غاية الرقي والنبل؛ حيث بدأ بشكر الكاتب لطرح الموضوع، ثم قدم معلومات تاريخية لتوضيح قصة ما حدث، وسرد ذلك بأسلوب أبوي رفيع. ما من شك أن هناك مئات من المواطنين السعوديين الذين لديهم قصص مشابهة مع سمو الأمير سلمان، ففي تواصله الدائم مع مواطنيه في قضاياهم، وظروفهم الإنسانية، أمثلة ودلائل مهمة على مكانة laquo;رجل الدولةraquo; وموضعه بين مواطنيه. لسنا هنا في مقام امتداح لمسؤول - وإن كان يستحق كل الإشادة - لكن من الضروري أن يطلع المراقب في الخارج على هذه الجوانب الأساسية في شخصية رجالات الدولة السعودية؛ لأن الحقيقة - أحيانا - لا تعطى حقها من الضوء.
إذا كان المراقبون في الخارج يتساءلون عن معنى تعيين الأمير سلمان في هذا الموقع المهم ويتجادلون في ما إذا كان محافظا أو داعما للتغيير! فإنه حري بالسعوديين أن يوضحوا أن laquo;رجل الدولةraquo; سلمان بن عبد العزيز كان هنا منذ نصف قرن يعمل على بناء بلده وتطويره، ويفتتح معارضه في العواصم الأوروبية منذ الثمانينات ليعكس الوجه الحضاري والإنساني للمواطن السعودي. لقد أكد الملك عبد الله بن عبد العزيز للعالم الخارجي مدى متانة التقاليد السياسية السعودية ورسوخها، وأثبت عبر اختياره للأمير نايف بن عبد العزيز وليا للعهد، والأمير سلمان وزيرا للدفاع أن مؤسسة الحكم في السعودية لا تنضب، بل هي زاخرة برجال الدولة الأكْفاء القادرين على الانتقال بها إلى درجات من التطوير السياسي والنمو الاقتصادي.
يقول الأمير سلمان في محاضرة ألقاها بالجامعة الإسلامية في المدينة المنورة بعنوان laquo;الأسس التاريخية والفكرية للمملكة العربية السعوديةraquo; (29 مارس ndash; آذار 2011): laquo;لقد توقع المؤرخ الفرنسي فيلكس مانجان، الذي عاصر سقوط الدولة السعودية الأولى، عودة الدولة مرة أخرى بسبب جذورها التاريخية وأسسها الدينية في المنطقة، وكتب قائلا: (ما زالت المبادئ نفسها موجودة، وقد ظهرت منها بعض البوادر، ومع أن أسرة آل سعود قد تفرقت، ومع أن الفوضى تعم بين الزعماء، فما زال هناك أس خصب يمكن للزمن والأحداث أن تجعله يتفتح من جديد)raquo;. لقد تفتح الجذر السعودي من جديد، فأينع وأثمر في ربوع الجزيرة.