ياسر عبدالعزيز

في 19 مارس الماضي، انقسمت القوى السياسية المصرية انقساماً حاداً أثناء الاستفتاء الذي دعا إليه المجلس الأعلى للقوات المسلحة الحاكم في مصر على تعديلات محدودة أجريت على دستور 1971، في أعقاب إطاحة نظام الرئيس السابق حسني مبارك. فقد صوّت أغلب الإسلاميين بـrdquo;نعمrdquo; لإقرار تلك التعديلات، واستمرار العمل بالدستور بعد تغيير المواد المسيئة به، والتي كانت قد وضعت لتمرير مشروع التوريث ولتعزيز سلطات رئيس الجمهورية شبه المطلقة وإطلاق مدد بقائه في المنصب، لكن أغلبية الليبراليين صوتوا بـrdquo;لاrdquo;، آملين في إسقاط الدستور، وصياغة وثيقة تأسيسية جديدة تكون أكثر تواكباً مع تطلعاتهم إلى دولة أكثر ديمقراطية وحداثة.
جاءت النتيجة بأغلبية مريحة لمن قالوا ldquo;نعمrdquo;، إلى حد أن أحد أقطاب التيار السلفي أطلق على ذلك الاستفتاء لقب ldquo;غزوة الصناديقrdquo;، باعتبار أن تلك النتيجة كانت ldquo;نصراً مظفراًrdquo; للإسلاميين آنذاك، حيث أبعدت مخاوفهم من ldquo;تربصrdquo; بعض العلمانيين والليبراليين بالمادة الثانية من الدستور الساقط، والتي تنص على أن ldquo;دين الدولة الإسلام، وأن مبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيس للتشريعrdquo;.
لم يكن الإسلاميون يطمحون إلى أكثر من تثبيت المادة الثانية من الدستور، إضافة إلى الإصلاحات الأخرى الضرورية المتعلقة بديمقراطية الدولة وتقليص صلاحيات الرئيس وإتاحة الفرص للتنافس على الرئاسة، بينما كان الليبراليون يطمحون إلى صياغة دستور جديد يعزز حداثية الدولة ومدنيتها ويحقق العدالة الاجتماعية ويضمن حقوق الأقليات.
ورغم أن المجلس العسكري نفسه لم يحترم نتيجة الاستفتاء، وأصدر إعلاناً دستورياً من 63 مادة في 31 مارس الماضي، تضمن النص على انتخاب برلمان، يكون مسؤولاً عن اختيار لجنة تضم مئة عضو لوضع دستور جديد، فإن مواقف الطرفين الرئيسين في الحياة السياسية المصرية الراهنة تبدلت تماماً إزاء الدستور الجديد.
لقد جرت وقائع كثيرة داخل البلاد وخارجها، عززت ثقة الإسلاميين في أنفسهم، فأخذتهم التطلعات إلى صياغة دستور جديد، يأخذ الدولة نحو ldquo;تطبيق الشريعةrdquo;، وrdquo;يصبغ المجتمع بصبغة الإسلامrdquo;، فيما بدا الليبراليون ldquo;كمن حفر حفرة لأخيه فسقط فيهاrdquo;، آملين فقط تكريس المادة الثانية، وعدم هيمنة الإسلاميين على البرلمان العتيد، بشكل يمكنهم من صياغة دستور ldquo;إسلامويrdquo;.
خارجياً، جاءت نتائج انتخابات المجلس التأسيسي في تونس لتعزز ثقة الإسلاميين وتزيد من تطلعاتهم؛ إذ نجح حزب النهضة الإسلامي في حصد 41% من مقاعد المجلس، ليصبح صاحب أكبر كتلة في البرلمان، بما يمكنه من الهيمنة على عملية صياغة الدستور، وتشكيل الحكومة المقبلة في بلاد ldquo;ثورة الياسمينrdquo;.
وفي المغرب، يتوجه ملايين الناخبين إلى اختيار أعضاء مجلس النواب، في 25 نوفمبر الجاري، في ظل دستور جديد، حيث سيكون رئيس الحكومة المغربية الجديدة، حسب الدستور المعدل، من الحزب الفائز بأغلبية مقاعد مجلس النواب، وبالطبع، فإن كل استطلاعات الرأي والتحليلات الجدية تشير إلى أن حزب ldquo;العدالة والتنميةrdquo; الإسلامي هو الأوفر حظاً لحصد غالبية المقاعد، وبالتالي تشكيل الحكومة المنتظرة وقيادتها. وفي ليبيا كان الأمر أكثر وضوحاً، فلم يكد رئيس المجلس الوطني الانتقالي مصطفى عبدالجليل يعلن تحرير بلاده بالكامل من نظام العقيد القذافي، في 23 أكتوبر الماضي، حتى أرفق هذا الإعلان بالتأكيد على تعهده بـrdquo;احترام الشريعةrdquo;.
ليس هذا فقط، لكن الرجل، الذي عمل لأربع سنوات وزيراً في آخر حكومات العقيد المقتول، أكد كذلك أن ليبيا، بعد ثورة 17 فبراير، ldquo;ستتخذ من الشريعة الإسلامية مصدراً أساسياً للتشريع، ومن ثم فإن أي قانون يعارض المبادئ الإسلامية سيتم تعطيل العمل بهrdquo;. ينظر الإسلاميون المصريون إلى ما حدث في تونس وليبيا على أنه تطور طبيعي سيمتد بالطبع إلى دولتهم التي تعد الدولة العربية الإفريقية الثالثة التي شهدت ثورة خلال هذا العام. وإضافة إلى المغرب الذي ستأتي إصلاحاته السياسية بالإسلاميين إلى السلطة أو ستفسح لهم مكاناً فيها، فإن السودان يُحكم بواسطة تحالف إسلامي/عسكري، حيث يبقى نظام البشير بمنأى عن الثورات والاحتجاجات التي اجتاحت دول الجيران، رغم انقسام البلد في عهده، وغرقه في مستنقع من الفقر والفتن والحروب الأهلية.
يبدو نظام البشير مستقراً في السودان رغم كل الاعتوارات التي تهيمن على أدائه، ورغم استهدافه من قبل الغرب والمحكمة الجنائية الدولية، ورغم تردي الحكم وارتباكه، فإنه حريص على اتخاذ سمت إسلاموي بشكل يتضح من حين إلى آخر في ldquo;مهاجمة الغربrdquo; أو ldquo;التعهد بتحرير القدسrdquo; أو جلد الفتيات اللائي يرتدين السراويل.
فإذا تركنا هذا الجانب الإفريقي من عالمنا العربي، وذهبنا إلى الشرق حيث النصف الآسيوي، فسنجد ldquo;حماسrdquo; على الحدود المصرية مباشرة تحكم ldquo;غزةrdquo;. ومنذ مطلع عام 2009، لم تدخل ldquo;حماسrdquo; حرباً مع إسرائيل، ولا حلحلت القضية الفلسطينية سلماً، لكنها فرضت عدداً من القوانين ذات ldquo;الطابع الإسلاميrdquo; على السكان في القطاع؛ ومنها حظر ركوب السيدات ldquo;الموتوسيكلاتrdquo;، ومنع عملهن في ldquo;صالونات الحلاقةrdquo;، فضلاً عن تعميم الاشتراطات المتعلقة بـ ldquo;الزي الشرعيrdquo;.
الأردن أيضاً لم يشهد احتجاجات واسعة تنذر بدخوله ضمن دول ldquo;الربيع العربيrdquo;، لكن جبهة العمل الإسلامي، وهي الذراع السياسية لحركة ldquo;الإخوان المسلمينrdquo; في هذا البلد، هي الفاعل الأكبر في المعارضة، التي تضم أيضاً أحزاباً يسارية وقومية وبعثية.
أما في لبنان، فالأمر لا يحتاج إلى شرح كبير؛ حيث يهيمن ldquo;حزب اللهrdquo; الشيعي أيضاً على المعارضة اللبنانية، ويكاد ينهي دور الدولة هناك، حتى في ظل خفوت الحديث عن دوره المقاوم، حيث كانت آخر معاركه مع إسرائيل في يوليو من عام 2008. وفي سورية، تبرز حركة ldquo;الإخوان المسلمينrdquo; على رأس الفاعلين السياسيين بين قوى المعارضة الناشطة في البلاد، رغم ما تعرضت له على مدى العقود الأربعة الماضية من قمع دموي، وليس هناك شك في أن دوراً كبيراً للجماعة سيظهر في حال سقط نظام الرئيس بشار، على خلفية الاحتجاجات الواسعة الراهنة، التي لا يؤيدها بالطبع ldquo;حزب اللهrdquo; اللبناني. وحتى في منطقة الخليج العربي، فإن معظم المعارضة، التي تظهر على استحياء في غير دولة، تستند إلى مرتكزات دينية أو طائفية في الأساس؛ سواء كان ذلك في شرق السعودية أو في البحرين، أو ترتبط بفكر ldquo;الإخوان المسلمينrdquo; بصورة أو بأخرى، كما يظهر في الكويت والإمارات، مع الإقرار بأن تلك المعارضات تجد ذرائع ومطالب سياسية واجتماعية يتحلى بعضها بالوجاهة والاعتبار.
الأمر لا يقتصر على الدول العربية فقط، لكن الدول التي تشارك العرب في الإقليم أيضاً تشهد مداً إسلامياً (أو دينياً) واضحاً، فإيران هي جمهورية إسلامية يحكمها ldquo;الولي الفقيهrdquo; كما نعلم، بينما تركيا يحكمها حزب إسلامي، وحتى إسرائيل يحكمها ائتلاف يضم بعض ldquo;الأحزاب الدينيةrdquo; شديدة التطرف.
لقد عزز المشهد الإقليمي ثقة الإسلاميين في مصر وضاعف تطلعاتهم وطمأنهم إلى أن فرصهم في الهيمنة على البرلمان والدستور وشكل الدولة المنتظرة في مصر في ازدياد.
وداخلياً، استفاد الإسلاميون من ميراث البطالة والفقر والعشوائية والجهل الذي كرسه نظام مبارك، كما لعبوا على العواطف الدينية الجياشة التي يتميز بها الشعب المصري عبر التاريخ، واستغلوا المساجد والمنابر الإعلامية في تعزيز تمركزهم في أعماق البلاد.
وساعد الليبراليون والعلمانيون على تعزيز حظوظ الإسلاميين، بتفتتهم وتبنيهم خطاباً نخبوياً وعدم توسيع نشاطهم على الأرض وعدم قدرتهم على بناء تحالف عريض يحتوي التيارات الشبابية التي أشعلت شرارة الثورة. وبعدما كان جوهر الصراع السياسي في مصر عند نجاح الثورة يتصل بالقدرة على إعادة العسكر للثكنات، وإقصاء ldquo;فلولrdquo; النظام السابق وحزبه الساقط وصياغة دستور حداثي يضمن تحقيق العدالة الاجتماعية وإعادة بناء الدولة على أسس مدنية ديمقراطية، تغيرت اللعبة تماماً، وبات جوهر الصراع مرتبطاً بما إذا كانت مصر ستظل ldquo;جمهورية مصر العربيةrdquo; أم ستصبح ldquo;جمهورية مصر الإسلاميةrdquo;، بما يستتبعه ذلك من ldquo;إلزام النساء بالزي الشرعيrdquo;، وrdquo;تطبيق الشريعةrdquo;، وrdquo;حظر الخمورrdquo;، وrdquo;منع السياح من ارتداء ملابس السياحةrdquo;، وغلق ldquo;المصارف الربويةrdquo;، وrdquo;إلزام الأقباط بدفع الجزيةrdquo;، وrdquo;هدم التماثيل الفرعونيةrdquo;.