محمد كريشان
تحولت الاحتجاجات الشعبية في سورية إلى قضية داخلية لبنانية بامتياز. لا بلد عربيا على الإطلاق تابع ما يجري في سورية بأدق تفاصيله، وبأعصاب مشدودة كما يحدث منذ أشهر في بلد الأرز، حكومة وأحزابا وقوى سياسية واجتماعية ودينية بمختلف تلويناتها. الواقفون بقوة لشد أزر النظام وكذلك الموالون للمنتفضين ضده، كلاهما يعتبر المعركة الجارية على تراب الجار معركته الخاصة. من يقف من اللبنانيين اليوم مع نظام الرئيس بشار الأسد لا يفعل ذلك انتصارا لحليف في محنة فقط إنما أيضا دفاعا عن نفسه ومستقبله السياسي وحتى الشخصي. أما أولئك الذين اختاروا الضفة الأخرى فهم يرون في إزاحة نظام دمشق فرصة لهم لتنفس الصعداء بعد عقود طويلة ومريرة من الوصاية السورية. الأوائل يعتبرون سقوط النظام في دمشق شهادة وفاة لهم فيما يعتبرها الآخرون شهادة ميلادهم.
طبعا بمنطق التصنيفات اللبنانية السائدة، هناك الآن معسكران يريان في ما يجري في سورية معركة حياة أو موت، فإما أن ينتصر معسكر سورية- إيران- حزب الله ومن والاه أو أن تكون الكلمة لمن يعاديهم جميعا من عرب وعجم، ولو أن الدقة في تحديد مواقع 'المع والضد' ليست دائما بصفاء الرؤية أو التبسيط الذي يلجأ إليه البعض استسهالا أو تشويها. كأن ما يجري حاليا في دمشق وحمص وحماة يجري في واقع الأمر في بيروت وطرابلس وصيدا، والراصد لتصريحات المسؤولين في الحكومة أو المعارضة أو ضيوف القنوات التلفزيونية المتخندقة في هذه الاتجاه أو ذاك يلمس كم ازدادت حمى هذه المعركة وكم اقتربت ساعة الحسم والحقيقة التي يخشاها الفريق الأول ويتلهف لها الفريق الثاني.
الحكومة اللبنانية، التي يحلو لبعض اللبنانيين أن يسميها حكومة حزب الله، أعادت عقارب الساعة إلى زمن لم يكن فيه لبنان يملك من أمره شيئا فلا يرى إلا ما تراه دمشق. دولتان بقيادة واحدة تقريبا ومواقف هذه وتلك تبدو واحدة على الصعيدين العربي والدولي. كثر هم من استهجن ذلك ورآه مسيئا لسمعة بلد مستقل بتاريخ وثقافة لبنان، وكثر كذلك من رأى أن لبنان لم يصل بعد إلى ترف شق عصا الطاعة عن سورية. للموالين للحكم السوري نغمة ثابتة لا تحبذ الحديث إلا عن المؤامرة العربية والدولية ضد دمشق لضرب ما يصفونه بقوى المقاومة والممانعة متجاهلين بالكامل تقريبا مستوى القمع والقتل ضد المدنيين السوريين الغاضبين. هؤلاء تراهم باستمرار يفضلون التحليق في فضاء التحليلات الاستعراضية عن مؤامرات مفترضة ولا يرون غضاضة في تجاهل سقوط عشرات المدنيين يوميا وكأن هؤلاء الضحايا لا قيمة لهم على الإطلاق. إن الوقوف بهذا الشكل القوي مع نظام يقتل أبناء شعبه لن يمر بسهولة.
بطبيعة الحال، إذا خرج نظام الأسد من محنته، كما يعتقد ويكرر هؤلاء، فسيلقون منه كل تكريم وعرفان بالجميل. أما إذا تهاوى هذا النظام بشكل أو بآخر، كما يقول معارضوه في ما يشبه اليقين، فإن القوى الجديدة في سورية لن تغفر لهؤلاء أنهم اختاروا الموقع الخطأ في أحلك فترات التاريخ السوري الحديث واستهانوا بتضحيات الآلاف ممن أرادوا حياة أخرى مختلفة. حياة، تقترب على الأقل مما يتمتع به اللبنانيون من حرية تعبير وصحافة وانتخابات تعددية استكثروها على إخوانهم السوريين. لقد ارتضوا لهؤلاء أن يبقوا إلى الأبد تحت ذل الأجهزة ونهش الفساد فيما يتواصل الصخب الكبير عن مقاومة وممانعة لا مكان لهما إلا في أذهانهم.
هؤلاء اللبنانيين لم يكونوا وحدهم في منطقهم هذا، يوجد من هذا الصنف بعض العرب الآخرين في الأردن وفلسطين وغيرهما من بقايا القوميين واليساريين الذين لا يرون التصدي المزعوم للمشاريع الأمريكية والإسرائيلية إلا إذا كان رواده أنظمة مستبدة فاسدة ووقوده من المواطنين المسحوقين الذليلين. لم يدرك هؤلاء، رغم كل تجاربنا المريرة السابقة، أن الوقوف في وجه مشاريع الهيمنة الإقليمية والدولية لا يمكن أن تتم أبدا بأنظمة تقهر شعوبها وتستهين بكرامتهم. كم مرة علينا أن نمر بتجارب دموية كهذه حتى نفهم أخيرا ؟!!
- آخر تحديث :
التعليقات