علي الغفلي

تتضمن أشد المناقشات اختزالاً للثورات الشعبية التي اجتاحت الدول العربية خلال الشهور الاثني عشر الماضية التمييز بين مرحلتين حاسمتين، تتعلق الأولى بإزالة نظام الحكم المستبد، وتتصل الثانية ببناء نظام الحكم الديمقراطي . توجد الكثير من تفاصيل الأحداث الضخمة التي تندرج تحت كل من هاتين المرحلتين، وهي تفاصيل حيوية تثير مسائل عديدة تبدأ بالعوامل الحقيقية وراء نشوب الثورات، وتمر بالتكاليف التي يدفعها مجتمع الدولة في مواجهة التعقيدات التي يصنعها النظام المستبد في وجه قوى التغيير السياسي، وربما لا تنتهي عند الانشغال بالقلق عن متانة دعائم النظام السياسي الديمقراطي الجديد . على الرغم من ذلك، فإن جوهر الأمر هو أن الثورة الشعبية تحمل هدفاً أساسياً مزدوجاً، هو القضاء على نظام متسلط وبناء نظام ديمقراطي بديل .

يمكن من خلال هذا الوصف المختزل النظر إلى تجارب الدول العربية الخمس . تبدو تونس الدولة الأسرع في تحقيق هدف إسقاط نظام الاستبداد، وكذلك الأسبق في تأسيس نظام حكم ديمقراطي جديد . لم تستغرق جهود الشارع التونسي من أجل الضغط على النظام المتسلط زمناً طويلاً، وتمكنت ترتيبات الانتخابات الديمقراطية من أن تحقق نتائج شرعية قادت إلى إنتاج حكومة تمتلك حظاً معقولاً من أسباب الاستقرار والفاعلية . ومن بين حالات تغيير النظم السياسية العربية تبدو تونس النموذج الأكثر جاذبية من حيث الموازنة بين تكاليف إسقاط نظام الاستبداد ومكاسب إقامة النظام الديمقراطي الجديد .

لقد مضت عشرة شهور على زوال حكم الاستبداد في مصر، ولكن السلطة وقعت في يد القيادة العسكرية، وتتملك قطاعات كبيرة في المجتمع المصري المخاوف من أن هذا الأمر قد لا يكون مؤقتاً، ما دفع بالشعب إلى الانشغال بثورة ثانية تطالب هذه المرة بتخلي القوات المسلحة عن السلطة . على الرغم من أن مصر لم تتأخر كثيراً في سرعة إنجاز هدف إسقاط قيادات نظام التسلط، إلا أن شعبها مايزال متشككاً في مدى نجاحه في إسقاط النظام بشكل كامل، ويبدو أن أمام هذه الدولة طريقاً صعباً نحو إقامة نظام ديمقراطي يمتلك دعائم شرعية مستقرة .

تنفرد ليبيا بأنها الحالة الأكثر حرجاً من حيث صعوبة دحر نظام الحكم المستبد، إذ إن التكلفة كانت ضخمة للغاية تطلبت دخول البلاد في البلاء المزدوج المتمثل في الحرب الأهلية والتدخل العسكري الأجنبي في آنٍ، الأمر الذي تسبب في سقوط عشرات الآلاف من القتلى والجرحى . ولكن بعد أن زال النظام المتسلط تبدو ليبيا واثقة بشأن نجاح تحقيق هدف إقامة نظام ديمقراطي مستقر نسبياً، حيث لم يتأخر إعلان تشكيل حكومة مؤقتة تبدو متماسكة حتى الآن، وذلك تمهيداً لاستعادة المفهوم الصحيح للدولة الليبية وإجراء الترتيبات الانتخابية الكفيلة بإقامة نظام ديمقراطي حقيقي فيها .

ويبدو الأمر مختلفاً بشكل لا يستهان به بالنسبة إلى اليمن، إذ إن الطريق إلى إزاحة نظام الحكم المستبد في هذه الدولة كان مجهداً، واظب خلاله الشعب على التظاهر في الساحات العامة شهوراً طويلة، لم ينتج عنها حتى الآن سوى توقيع قائد النظام على وثيقة المبادرة الخليجية، وهو إجراء يمثل في أحسن الأحوال انسحاباً محسوباً لقائد هذا النظام العتيد وليس سقوطه . ويمكن أن تلقي نذر انقسام الدولة اليمنية ظلالاً ثقيلة على فرص نجاح إقامة نظام حكم ديمقراطي، أو ربما نظامين مستقلين في حال نجحت قوى الانفصال في تحقيق مآربها . ولكن يبدو أن اتجاه التطورات قصيرة المدى في اليمن توحي على أقل تقدير بإمكانية تشكيل حكومة جديدة . يبقى أن نرى مدى تقبل الشعب اليمني الناشط لعناصرها وتوجهاتها .

يبقى هدف تغيير نظام الاستبداد وإقامة الحكم الديمقراطي في سوريا متعثراً بشكل يثير الأسى حتى الآن . مايزال النظام الحاكم في دمشق قادراً على أن يبدو ممسكاً بزمام الأمور، وفي حقيقة الأمر ظل هذا النظام خلال أغلب فترات الشهور الثمانية منذ نشوب الثورة متماسكاً بين جناحية العسكري والسياسي، وعلى الرغم من أن عدد ضحايا تعامل الحكومة العنيف مع احتجاجات الشعب يقترب سريعاً من الأربعة آلاف قتيل، فإن الغموض يكتنف توقيت وشكل نهاية النظام . وبخلاف الأمل الذي يحدو الشعب السوري بأن تتوج ثورته بإطاحة نظام الأسد، فإن تعنت النظام وتردد المجتمع الدولي حياله، وتذبذب الموقف تجاه شرعيته، وتشتت الأداء السياسي للمعارضة، تجعل الخوض في مسألة طبيعة النظام الديمقراطي البديل أمراً مؤجلاً .

تنتاب شعوب دول الثورات العربية الكثير من المخاوف بشأن حصاد التضحيات الكبيرة التي بذلتها من أجل القضاء على نظم الاستبداد السياسي في دولها، وستبقى هذه الشعوب متيقظة من أجل مراقبة وإدراك جميع الترتيبات المتعلقة بإقامة حكومات ما بعد الثورات . لقد استوعبت الشعوب العربية الثائرة جميع الجوانب المتصلة بنشأة واستدامة حكومات التسلط السياسي، وذلك بعد أن خبرت الحياة تحت وطأة الاستبداد طوال عقود ممتدة من الزمن . لقد صارت هذه الشعوب قادرة على تمييز المؤسسات والسياسات ذات المنطلقات الوطنية والأسس الديمقراطية والممارسات النزيهة، وهي لذلك لن تعدم الإرادة أو الوسيلة من أجل ممارسة حقها في مراقبة عمليات بناء النظم السياسية في دولها وتقييم مشروعية نشأة وأداء المؤسسات السياسية الجديدة . إن الثقافة السياسية التي توافرت لدى الشعوب العربية ودفعت بها إلى الثورة على نظم الاستبداد السياسي، سوف تستمر تدفع بهذه الشعوب للقيام بكافة أدوار المشاركة السياسية من أجل ضمان أن الحكومات الجديدة تجسد الطموحات في الحياة في ظل نظم سياسية كريمة .