أمجد عرار

آخر استطلاعات الرأي في روسيا يفيد أن 8% من المواطنين الروس يعدون حلف شمال الأطلسي (الناتو) شريكاً لروسيا، في حين أن البقية لا يعدونه صديقاً، وبالتأكيد يراه قطاع مهم منهم عدواً . لم يقل الاستطلاع ذلك لأن، الحديث بلغة العداء ليس محبّباً . هل من غرابة في نتائج الاستطلاع؟ نعم، لكن المراقبين لا يتّفقون على فحوى الغرابة وماهيّتها، فمثلاً إحدى وكالات الأنباء الغربية الناشرة للاستطلاع استخدمت تعبير 8 في المئة ldquo;فقطrdquo;، أي أنها تستغرب أن يكون بين الروس من لا ينظر إلى حلف (الناتو) ك ldquo;صديقrdquo; لبلادهم، كأنها تتجاهل أن الحلف أنشئ أصلاً لمواجهة روسيا التي كانت القلب والمحرّك للاتحاد السوفييتي السابق .

عندما أنشئ الحلف عام 1949 بعد توقف الحرب العالمية الثانية، كان ذلك بذريعة انتشار القوات السوفييتية في دول أوروبا الشرقية، والشعور الذي أثير عمداً وقصداً لدى دول الشطر الغربي من القارة بقرب هجوم سوفييتي عليها لدفعها إلى التذيّل للولايات المتحدة والانضواء تحت قيادتها للحلف . وإذا بالاتحاد السوفييتي وحلفائه الشرقيين ينشئون حلف (وارسو) عام ،1955 أي بعد ست سنوات على ولادة (الناتو)، ويمكننا أن ندرك أن (الناتو) هو الذي أثار مشاعر بوجود التهديد وليس العكس .

وإذا كانت تلك البداية مؤشّراً إلى أن حلف الغربيين لم يكن دفاعياً على الإطلاق، فإن الخواتيم تقدّم الدليل الساطع على تلك المؤشّرات، إذ إن حلف (وارسو) الشرقي تفكك عام 1991 مع انهيار الاتحاد السوفييتي والمنظومة الاشتراكية، ومع ذلك لم يكتف الغرب بالإبقاء على (الناتو)، بل عمل على توسيعه شرقاً ليصل إلى أعتاب روسيا، وعندما بلغت ذروة التوسّع إلى ldquo;باحة المنزلrdquo; الروسي عام ،2008 استشاطت موسكو غضباً وتحرّكت عسكرياً ضد جورجيا حليفة أمريكا و(الناتو)، وانتهت تلك الحرب باعتراف موسكو باستقلال إقليمي أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا، رغم اعتراف عدد قليل من دول العالم بذلك الاستقلال .

الآن، وبعد مرور ثلاثة أعوام على تلك الحرب التي أصابت الغرب بالذهول، عادت موسكو لتقول إن لديها أدلة ملموسة على تورط الولايات المتحدة في مقتل عناصر حفظ سلام وجنود ومواطنين روس في أوسيتيا الجنوبية، كما اتهمت حلف شمال الأطلسي بلعب دور في تسليح نظام الرئيس الجورجي ميخائيل ساكاشفيلي في محاولة لجر جورجيا إلى (الناتو) . وكأن موسكو تريد أن تهدد الغرب مجدداً بعدم ldquo;اللعب بالنارrdquo; في موضوع تراه مصيرياً بشأن أمنها، ولتوصل رسالة مفادها أن روسيا المستكينة إبان الخروج من رحم مرحلة التفكك مطلع التسعينات، مرحلة وانقضت، وعلى الغرب أن يسلّم بعودة روسيا إلى الحلبة الدولية كقطب مضاد يستعيد التوازن الذي كان سائداً في العهد السوفييتي . وما التهديد الصادر عن الرئيس الروسي ديمتري ميدفيديف بأن روسيا ستنشر صواريخ إسكندر في منطقة كاليننغراد الغربية رداً على خطط الولايات المتحدة ببناء نظام مضاد للصواريخ في أوروبا، سوى رسالة أخرى ترفد التوجّه ذاته، كما أن المواقف الروسية بشأن سوريا وإيران تؤشّر إلى سخونة تستعيد أجواء الحرب الباردة التي قد تتحوّل إلى ساخنة، ولربما تشتعل إذا أصرّ الغرب على التصرّف كحاكم للعالم وموزّعاً للميراث .

ليس هذا ما تتمناه شعوب العالم والأجيال ldquo;المبشّرةrdquo; بطريق الأشواك والألغام . الشعوب تريد تنمية وحلولاً لمشكلات البيئة والأكل والشرب، والتوحّد ضد جنون الطبيعة وأمراضها والتلوّث، ولا تريد أحلافاً عسكرية وحروباً، لكنّها بالتأكيد لن تشعر بالأمان بوجود حلف واحد، لأن العالم لا يمكن أن يقف على ساق واحدة .