وحيد عبد المجيد

رغم أن صناديق الاقتراع في مصر لم تُغلق بعد، كون الانتخابات البرلمانية فيها تُجرى على ثلاث مراحل ظهرت نتائج إحداها وبدأت مؤشرات الثانية التي أُجريت الخميس والجمعة الماضيين في الظهور، فقد أصبح واضحاً أن الإسلاميين سيكون لهم أكبر عدد من المقاعد في مجلس الشعب الجديد. وقد حدث مثل ذلك في انتخابات المجلس التأسيسي في تونس، ثم في الانتخابات النيابية المغربية في الشهرين الماضيين. لكن الفرق هو أن نتائج المرحلة الأولى للانتخابات المصرية ومؤشرات مرحلتها الثانية تفيد أن الإسلاميين سيحصلون في مجملهم على أغلبية مطلقة (أكثر من 50 في المائة) بخلاف الحال في تونس والمغرب حيث نالوا 41 في المائة و27 في المائة على التوالي.

غير أن هذا الفرق، والذي يبدو للوهلة الأولى كبيراً، قد لا يكون كذلك في المحصلة لأن الإسلاميين الفائزين في الانتخابات المصرية لا ينتمون إلى تيار واحد بل إلى تيارين مختلفين بخلاف الحال في تونس والمغرب. لذلك ربما يؤدى الفرق في هيكل الحركات الإسلامية واتجاهاتها ومواقفها تجاه مسألة الانتخابات في البلدان الثلاثة إلى تحييد الاختلاف في نصيب كل منها في المجالس التمثيلية الجديدة في هذه البلدان.

ففي مصر تيار سلفي يظهر في الساحة السياسية الآن للمرة الأولى في تاريخه المديد الذي سيبلغ قرناً كاملاً بعد ثلاثة أعوام. وقد انتقل القسم الأعظم في هذا التيار من العمل الدعوي الديني الذي اقتصر نشاطه عليه طول تاريخه إلى العمل السياسي بسرعة فائقة عقب ثورة 25 يناير. وصارت له أحزاب سياسية أكبرها حزب quot;النورquot; الذي حقق مفاجأة بحصوله على نحو 20 في المائة من أصوات الناخبين حتى الآن متحالفاً مع حزبين سلفيين صغيرين نسبياً ( الأصالة، والبناء والتنمية).

ورغم وجود تيار سلفي يُعتد به في المغرب، وينتظم قسم كبير منه في quot;جماعة العدل والإحسانquot;، فإنه لا يمارس عملاً سياسياً مباشراً ويرفض المشاركة في الانتخابات مثلما كان الأمر بالنسبة لنظيره في مصر حتى مطلع العام الجاري.

أما في تونس، فالتيار السلفي يبدو محدوداً رغم ظهوره المتكرر في الشارع بطريقة صاخبة أحياناً ولكنها ليست مؤثرة على المسار السياسي. لذلك تختلف مصر في أن الفائزين في انتخاباتها ليسوا كتلة واحدة، بخلاف الحال في تونس والمغرب حيث يتصدر المشهد السياسي في كل منهما إسلاميون ينتمون إلى اتجاه واحد ويجوز اعتبارهم امتداداً لتيار quot;الإخوان المسلمينquot; الذي حصل حزبه في مصر quot;الحرية والعدالةquot; حتى الآن على نسبة لا تزيد كثيراً عن تلك التي نالها حزب quot;النهضةquot; في تونس. فقد حصد حزب quot;الإخوانquot; في مصر 43 في المائة من مقاعد المرحلة الأولى في الانتخابات، بخلاف 5 في المائة هي نصيب حلفائه في quot;التحالف الديمقراطيquot; الذي يقوده. وتفيد مؤشرات المرحلة الثانية أن حضوره البرلماني لن يزيد على ذلك.

لكن ما يجعل المشهد في مصر مختلفاً هو حصول السلفيين على نحو 20 في المائة أخرى من مقاعد البرلمان، الأمر الذي يعني استحواذ الإسلاميين في مجملهم على نحو ثلثي هذه المقاعد. غير أن الاختلاف بين السلفيين القادمين لتوهم إلى الساحة السياسية وquot;الإخوانquot; الذين خبروا دهاليزها ومعاركها قد يجعل جمعهم في سلة واحدة أمراً غير واقعي، وربما غير منطقي أيضاً. وليس الفرق بين قادمين جدد وحاضرين من قبل، بما يعنيه من مستويين متباينين تماماً من حيث التجربة والخبرة، هو المصدر الوحيد للاختلاف بين quot;الإخوانquot; والسلفيين في مصر. فقد اندمج quot;الإخوانquot; في الحياة السياسية المصرية منذ أن وقفوا على ضفافها وأوغلوا فيها برفق في أواخر ثلاثينيات القرن الماضي، وحتى دخلوا في أعماقها بقوة في الثمانينيات عبر مشاركتهم في الانتخابات البرلمانية والمهنية والعمالية والطلابية وغيرها.

وأتاح لهم هذا الاندماج التفاعل مع الآخر، أحزاباً وجماعات سياسية واجتماعية. كما أكسبهم مرونة السياسة التي تقوم على المصالح والمساومات. لذلك يعرف من تابعوا نشاط quot;الإخوانquot; السياسي في العقود الأخيرة مدى التطور الذي حدث في منهجهم وأسلوبهم وعلاقاتهم مع الآخر.

ولم يتح لمعظم السلفيين بعد شيء من ذلك لأن العمل الدعوي الذي تركزت نشاطاتهم فيه لا يحتاج إلى تفاعل مع الآخر، ولا ينطوي على مرونة العمل السياسي وسعة أفقه. فالداعية يبلغ ويأمر بالمعروف أو ينصح به وينهى عن المنكر ولا يبحث عن حل وسط، بخلاف السياسي الذي تزداد فرصته كلما استطاع أن يكسب أرضاً جديدة في مساحات قد لا يستطيع دخولها بدون إبداء مرونة.

لذلك ليست هناك مفارقة في قبول quot;الإخوانquot; التحالف مع حزب quot;الوفدquot; الليبرالي في أول انتخابات برلمانية دخلوها على نطاق واسع عام 1984، لأن تجربتهم السابقة أكسبتهم المرونة اللازمة لذلك، ورفض حزب quot;النورquot; الانضمام لتحالف يقوده حزب quot;الإخوانquot; في أول انتخابات يخوضها السلفيون الآن.

غير أنه قد لا يكتمل فهم الفرق بين quot;الإخوانquot; والسلفيين بدون الإشارة إلى الاختلاف في المنهج وطريقة النظر إلى العلاقة بين السياسة والدين. فـquot;الإخوانquot; ينطلقون في عملهم السياسي من منهج المصالح والمفاسد، ويقتربون في بعض الأحيان من المفهوم القائل بأنه حيث توجد المصلحة فثمة شرع الله، بينما يمارس السلفيون هذا العمل بمنطق الحلال والحرام، ويتجه بعضهم إلى توسيع نطاق التحريم إلى أقصى مدى. ولذلك يجد quot;الإخوانquot; أمامهم مجالاً واسعاً للحركة في مساحة رمادية رحبة يلتقون عليها مع آخرين، كلاً أو جزءاً، فيما يضيق المجال أمام كثير من السلفيين الذين يقيدون أنفسهم عندما يتعاملون مع السياسة باعتبارها إما أسود أو أبيض.

ويؤدي هذا الاختلاف المنهجي إلى افتراق واقعي في اللحظات التي ينظر فيها quot;الإخوانquot; إلى قضية أو أخرى بمنظار سياسي، فيما يراها السلفيون متعلقة بالهوية. والحال أن مدى التباعد والتقارب بين هذين الفريقين يتوقف في الأغلب الأعم على مساحة كل من السياسة والهوية في مواقفهما. فالهوية، ومن ورائها العقيدة، حاضرة دوماً وبقوة في مواقف السلفيين الذين يرى أكثرهم أن الانتخابات تمثل صراعاً على هوية الدولة والمجتمع.

أما بالنسبة لـquot;الإخوانquot;، فالهوية حاضرة في خلفيتهم باعتبارها مرجعية عامة يستمدون منها الاتجاه العام لرؤيتهم وبرامجهم وخططهم التي يضعونها ويطورونها ويراجعونها ويغيرونها وفق مقتضيات العمل السياسي في المقام الأول.

لذلك قد لا يكون من المبالغة القول إن السلفيين هم أهل هوية يمارسون شيئاً من السياسة، في حين أن quot;الإخوانquot; هم أهل سياسة يمارسونها انطلاقاً من الهوية.

وإذا صح ذلك، يصبح مستقبل العلاقة بين الفريقين مرتبطاً بالاتجاه الذي ستمضي فيه مصر خلال السنوات المقبلة.