جميل مطر
اجتمعنا وكان موضوع الاجتماع التطورات التى يشهدها النظام الإقليمي العربي . دار الحديث عن التغيرات التي طرأت على هذا النظام، وهل حقاً إنها من العمق إلى الدرجة التي جعلت بعض المتخصصين في الشؤون العربية يعتقدون أن نظاماً إقليمياً آخر ينشأ في المنطقة؟ سمعت من يطلق على النظام الناشئ اسم النظام الإسلامي العربي تمييزاً له عن إقليم إسلامي ldquo;تركيrdquo; أي وسط آسيوي، وإقليم إسلامي مالاوي أي جنوب شرق آسيوي، وإقليم إسلامي لجنوب الصحراء يمتد عرضاً من الصومال شرقاً إلى سواحل غربي إفريقيا، ثم فوجئت بفريق قليل العدد، وإن كان قوي الحجة ، يتوقع أن النظام الإقليمي العربي سيجد قريباً من يطلق عليه النظام الإقليمي السني، نسبة إلى طائفة السنة التي ينتمي إليها أغلب سكان المنطقة العربية .
لم يقتصر التعدد في الآراء على قضية مستقبل النظام العربي وبدائله في حال تغيرت معالمه وهويته ، تعددت الآراء عن خطاب الملك السعودي الذي دعا فيه إلى إقامة ldquo;اتحاد الخليج العربيrdquo; ليحل محل مجلس التعاون الخليجي . قيل إن ترحيب شعوب الخليج العربي بهذا الإعلان أمر طبيعي، فالشعوب العربية تحلم بالوحدة وتعدّها أساساً وأصلاً، وما الحال الراهنة للأمة سوى انقضاض على هذه الوحدة ومؤامرة عليها . خرج آخرون ليقولوا، إن الترحيب لم يكن على المستوى المطلوب، وبخاصة في المجتمعات غير الخليجية . يبررون هذا الانخفاض في مستوى الترحيب، بأنه نتيجة حملات إعلانية وسياسية مكثفة استمرت عشرات السنوات تحارب فكرة الوحدة العربية أو تقلل من شأنها، ووصلت في حين أو آخر إلى حد تكفير من يؤمن بالوحدة أو يسعى إلى تحقيقها . . المؤكد على كل حال، أن الحملة تسببت في انحسار حماسة الشعوب للوحدة، إن لم تكن قد خلقت شكوكاً جديدة ليس فقط في إمكانية تحقيقها، ولكن أيضاً في سلامة الفكرة وجدواها كحلم من أحلام الأمة .
انتقل النقاش إلى دوافع طرح فكرة الوحدة الخليجية على هذا المستوى الرفيع ، مستوى قمة خليجية، وعلى لسان ملك السعودية ، الدولة الأكبر والأقوى في هذا التجمع العربي . لم ينفِ أحد حقيقة أنه لو ترك التطور العادي لمجلس التعاون الخليجي لإرادة شعوبه، لكان الخليجيون قد توصلوا إلى تنفيذ اتفاقيات وإجراءات تحقق اندماجاً أقرب ما يكون إلى الوحدة السياسية بين دول المجلس، وأن مرور ثلاثين عاماً على نشأته، من دون أن يحقق تكاملاً اقتصادياً وسوقاً واحدة، ليس دليلاً على فشل كلي، بقدر ما هو دليل تضارب مصالح .
لا شك في أن بيننا من يذكر تجربة الوحدة المصرية - السورية، وكثيرون كتبوا عنها . البعض من هؤلاء المؤرخين والسياسيين عدّها تجسيداً لطموحات نظام في مصر وتلبية لمصالح فئات من العسكريين والسياسين في سوريا، والبعض الآخر عاد إلى تفاصيل مقدماتها ليدرك أن الإنذار الذي تسلمته دمشق من حكومة تركيا والمبدأ الذي أعلنه الرئيس الأمريكي واشتهر باسمه، أي مبدأ أيزنهاور، كانا السبب الرئيس الذي دفع كلا الطرفين إلى إقامة دولة الوحدة حماية لوجودهما ودفاعاً عن عقيدتيهما السياسية . نذكر أيضاً تجربة باكستان منذ النشأة وإصرار آبائها المؤسسين على إقامة وحدة بين شرق البنغال وأقاليم شمال غرب شبه الجزيرة الهندية، وكان الهدف المعلن، أن دولة باكستان الإسلامية لن يُقدر لها أن تعيش طويلاً إذا لم يتوحد جناحا الإسلام في شمال الهند .
لا جدال أن حكومات عربية عديدة تشعر بأنها معرضة اليوم، وأكثر من أي يوم مضى، منذ حصولها على الاستقلال، إلى أخطار تهدد استقرارها وأمنها، ومن مصدرين أساسيين . فقد دخلت المنطقة العربية، مثل مناطق أخرى في العالم، مرحلة جديدة في تاريخ نموها، حيث تشتبك وربما لأول مرة، مع متغير ldquo;التغييرrdquo; اشتباكاً جدياً، لا يخلو من العنف . ليست هذه هي المرة الأولى التي تحتك فيها معظم الدول العربية بقوى عديدة للتغيير، في المرات السابقة اتسم التعامل بين الطرفين بالمرونة والوداعة . اختلف الأمر هذه المرة، بل أستطيع الجزم بأن التغيير لم يأت في أي وقت مضى صادماً كما هو الآن، ولم تهتز لقدومه أركان حكم وتقاليد عتيقة كما تهتز الآن .
جاءنا التغيير في العقود السابقة متدرجاً ومتفهماً حساسية شعوبنا وطبقاتها الحاكمة ومتطلباتها وقدراتها، وبالمقابل جرى التعامل معه بتفهم مماثل ومرونة وعقلانية وثقة في النفس وفي التقاليد، وقوة الروابط الخارجية مع دول عظمى مستعدة لتخفيف وطأة التغيير، أو درء أخطاره .
كشف الربيع العربي منذ أسابيعه الأولى عن أنه لن يكون موسماً عادياً يؤدي دوراً ويرحل . قدّم أكثر من دليل على أنه يرفض أن يذكره التاريخ على أنه كان حدثاً طارئاً أو نسمة ناعمة لن يتجاوز تأثيرها تحريك بعض الأتربة أو الرمال الراكدة فوق قشرة المجتمعات . أثبت أنه باق، وأثبت أيضاً أن ما ظهر منه حتى الآن يعلن أن في أعماقه أعاصير هائلة وأمواجاً هادرة قد لا تهدأ خلال زمن منظور . أظن أن المسؤولين في دول الغرب ، وربما أيضاً في روسيا والصين، تنبهوا إلى هذه القضية التي تأخر مسؤولون عرب كثيرون في التنبه إليها . كانت جميع تصرفات المسؤولين الأجانب وتصرفات قوى الرفض والاحتجاج في مجتمعاتهم، تدل على ذلك . كانوا هم الذين قدروا أن الربيع العربي، قد يصبح ربيعاً عالمياً، تتغير تفاصيله وحدّته وخطورته باختلاف ظروف المجتمعات التي يهب عليها . وبالفعل بدأ في مدريد وأثينا مختلفاً عما بدا عليه في لندن ثم في نيويورك وأوكلاند وواشنطن، بل وكان في اليمن مختلفاً عن سوريا وعن ليبيا وعن مصر . ومع ذلك كان واحداً في إصراره على نية تحقيق التغيير .
أما المصدر الثاني للشعور بالخطر، فكان ومايزال بعد أن استفحل، صعود القوة العسكرية الإيرانية . يزيد من تعميق هذا الشعور بالخطر، إقدام الولايات المتحدة الأمريكية على تنفيذ خطة إعادة نشر قواتها في العالم، ونيتها نقل بؤرة اهتمامها إلى شرقي آسيا والمحيط الباسيفيكي . من ناحية أخرى، بدا واضحاً للجميع أن العراق قد يتحول إلى ساحة تمد إليها إيران حدود تفوقها العسكري والدبلوماسي والاستخباراتي، سواء بحجة العداء ldquo;الإسرائيليrdquo; لها، أو بحجة الحاجة المشروعة إلى إقامة توازن جديد للقوة مع تركيا الصاعدة .
التغيير واقع لا يجوز إنكاره أو قادم لن نقوى على وقفه، وكان من أوائل من طالب بالواقعية في التعامل معه الملك السعودي نفسه، وكانت من بواكيره التي فاجأت المنطقة الدعوة التي وجهها مجلس التعاون الخليجي إلى المملكتين الأردنية والمغربية للانضمام إليه أو توثيق ارتباطاتهما به، وهي الدعوة التي أعقبها بأسابيع قليلة النداء الصادر عن المجلس لإقامة اتحاد خليجي كشكل من أشكال الوحدة السياسية التي كثيراً ما دعا إليها القوميون العرب في عصور المد القومي .
التعليقات