وفيق السامرائي


يوم الأمل، يوم النصر.. كثرت تسميات العراقيين في وصفهم للانسحاب الأميركي الذي لم يكد دخان محركات المعدات المغادرة يتبدد حتى نشبت أزمة سياسية تهدد العلاقات الوطنية تهديدا خطيرا.

وإذا كان في الانسحاب الأميركي نصر للعراقيين، فإنه سجل خيبة كبيرة للسياسيين الأميركيين من ذوي العقول القاصرة. وإذا ما راجعنا السجل الأميركي نراه ملطخا بهزائم استراتيجية كبرى وتكتيكية لا تحصى، تعكس كارثية القرارات المتهورة الجوفاء والحسابات الركيكة.

زجوا بقواتهم في خليج الخنازير وهزموا، وزجوا بها في حرب فيتنام وخسرت أميركا نحو 200.000 قتيل وجريح من قواتها، وكانت الخاتمة هزيمة ساحقة. وتدخلوا في الصومال بعملية الأمل وهربوا في أول اختبار، وشنوا حربا باردة على الاتحاد السوفياتي فوضعوا لبنات ترشيق الدولة الروسية وتخليصها من ترهل كان سيؤدي إلى انهيار حتمي داخلي، وشنوا حربا على أفغانستان وها هي طالبان موجودة، وبقيت كل تهديداتهم للبرنامج النووي الإيراني فارغة وهراء.. أما نتائج حرب العراق فأدت إلى بداية تقوقع نفوذ أميركا وانحسار دورها القيادي.

نعم كان لدى العراق برنامج نووي وترسانة من أسلحة الدمار تبين أن بغداد دمرتها بعيدا عن عيون المراقبين، وهو خطأ كان ممكنا تفادي عواقبه لو جرت الإجراءات بإشراف المراقبين. وحدث الذي حدث وأخل الأميركيون بتعهداتهم. فعمد بريمر حاكمهم المدني على تفتيت العراق، وإثارة النعرات، وتجسيد فلسفة المكونات، وزرع العداء بينها. فانتشرت العمليات المسلحة من عشرات الأشخاص في الفلوجة وسامراء إلى مئات آلاف المسلحين والمساندين والداعمين المباشرين في كل أنحاء العراق، وما يؤكد هذه الأرقام أن عدد من أدخلوا المعتقلات الأميركية تجاوز نصف المليون شخص. وساعد المخبرون السريون وتقاريرهم الكاذبة إلى القوات والأجهزة الأميركية في تأجيج مشاعر الغضب الشعبي وانتشار حمل السلاح، فتراجعت قدرة الأميركيين على ضبط الأمن على الرغم من ضخ المزيد من خيرة تشكيلاتهم القتالية، واستمر التدهور إلى حد التفكير بانسحاب شامل مبكر، لولا تصادم الجماعات المسلحة في ما بينها وظهور الصحوات.

لقد تحملت القوات الأميركية خسائر كبيرة، ووضعها سياسيو واشنطن تحت ظروف بالغة التعقيد. وفشل الجيش وأجهزة المخابرات في تعديل المسارات الخاطئة للسياسيين الذين اعتمدوا في حساباتهم على توصيات سطحية لأشخاص ربما لم يروا العراق من قبل.

وماذا حدث في أفضل الأحوال؟ رفضت الكتل السياسية التجديد لبقاء القوات الأميركية على الرغم من التعقيدات المحلية والإقليمية، فخرج الأميركيون بخفي حنين، وكل ما يقال عن امتيازات ومكاسب حقيقية ليس إلا هراء وسرابا. فخسائرهم تعدت كل الحسابات وكل المكاسب التافهة. والسبب الرئيسي للهزيمة يكمن في سياسة واشنطن لمرحلة ما بعد الاجتياح المتغطرسة الهوجاء. ويفترض أن تكون الهزيمة الأميركية عبرة للآخرين؛ كل الآخرين.

ومهما قيل عن الحجم غير العادي للسفارة الأميركية في بغداد وكثرة موظفيها وعناصر حمايتها، ومهما ضخم عدد المدربين الأميركيين، فقدت الإدارة الأميركية القدرة على فرض إرادتها على العراقيين، وذهبت مئات مليارات الدولارات هدرا، وذهبت دماء جنودهم كسابقاتها.

فهذا هو العراق كما كان قبل 1400 عام، بلد الشد والجذب والمناورات والغزوات الداخلة والخارجة، وأهله من الشعوب الصعبة المراس، وعلى أرضه تلتقي الحضارات أحيانا وتتصادم في حالات كثيرة. وحتى على المستوى الداخلي، أظهرت الأحداث الأخيرة قيادات متحمسة مستعدة للتصادم باستخدام كل الوسائل المتاحة لها. وهو ما يقود إلى استنتاج واحد كبير هو أن التصادم إذا ما حدث فإنه سيقود إلى ما يكسر التوقعات ويتجاوز بالتأكيد النطاقين، المحلي والإقليمي. ولا تزال أمام العراقيين فرصة للتعايش في عراق ديمقراطي موحد، وهذا يتوقف على الالتزام بالدستور، بكل الملاحظات المسجلة عليه، واحترام الخصوصيات الخاصة للثقافات والديانات، إلى أن يأتي يوم يختار فيه العراقيون طواعية حمل هوية واحدة اسمها هوية المواطنة، وهذا يمكن تحققه إذا حسنت نيات السياسيين، أو يستغرق أجيالا، وقد لا يحدث، وقد تسبقه أحداث دراماتيكية. والموقع الجغرافي يساعد في فهم طبيعة المعادلات. فإذا كان من البساطة أن يجد الفرد مجالا ميسرا للتواصل الخارجي فكيف حال الأحزاب والجماعات؟ ربما هناك من يقول إن القوانين كفيلة بالحل، فالمشكلة أن الناس ضعف التزامهم بالقانون، وكلما ازدادت قسوة المواد القانونية، دفعتهم نحو الالتفاف والتمرد. وهذا يتطلب وقتا طويلا وشعورا بالعدل والإنصاف. laquo;فالمكوناتraquo; الرئيسية الثلاثة قوية بما لا يمكن الاستهانة بأي منها.